دراسات وبحوث

السوابق القضائية في اليمن بين التشريع والواقع القضائي

“مقال تحليلي مقارن مختصر”

 

المستشار الدكتور/ صالح عبد الله المرفدي*

اولاً: مفهوم السابقة القضائية:

هو حكم تصدره محكمة لأول مرة في قضية، فيؤسس قاعدة قضائية تأخذ بها المحاكم الأخرى المساوية لها والأدنى منها درجة، والواقعة في نطاق اختصاصها للحكم في قضايا مشابهة للقضية الأولى.

ومن هذا المفهوم، يتضح أن السابقة القضائية ما هي إلا عبارة عن اجتهاد قضائي، يرسخ مبدأ قضائياً؛ ومهمته معالجة مسألة لم ينظمها القانون، أو نظمها القانون بنص معين إلا أنه نص غامض وفيه لبس، وهنا يجتهد القضاء في حكم هذه المسألة، أو يجتهد في تفسير النص القانوني الغامض.

 

ثانياً: شروط العمل بالسابقة القضائية:

١- يُشترط في اكتساب السابقة “قوةَ القانون” وإلزاميتها للمحاكم الأخرى في القضايا المشابهة للقضية التي صدر فيها هذا الحكم، ألا يكون حكمُها إعمالًا عاديًا للقاعدة القضائية المستقرة؛ لأن كلمة “سابقة” تعني أنها “لم يسبق لها مثيل في القضاء”.

٢- كما يشترط بعض فقهاء القانون، أن يكون حكم السابقة القضائية مسلّماً من محكمة الاستئناف الخاصة بالنطاق الجغرافي للمحكمة التي أصدرته، أو من محكمة النقض في إطار اختصاصها الوطني أو الفيدرالي بحسب الاحوال، مع وجوب التنويه أن ما تصدره محكمة استئناف من أحكام لا يعد “سابقة قضائية” يلزم نظيراتها الأخريات، إلا إذا أقرته محكمة النقض المختصة.

٣- أن السابقة تنشأ باجتهاد القضاء وليس بتطبيق نص قانوني، كما أنها تنشأ حكماً للمسألة محل النظر ابتداءً ولم يكن هذا الحكم موجوداً من سابق.

٤ – لا تعد المبادئ القضائية سوابق قضائية بعد تكرار تطبيقها والعمل بها، الا عند تغير الاجتهاد والعدول عنه، فيعتبر الاجتهاد الجديد هو السابقة القضائية نفسها.

٥- لا يجوز العدول عن المبادئ القضائية وتغييرها، الا طبقًا للإجراءات المنصوص عليها في القانون، ومن الطبيعي عدم جواز أن تكون السابقة القضائية مخالفة لنص قانوني صريح.

 

ثالثاً: الخلاف الفقهي القانوني:

تختلف القوانين الوضعية في اعتماد “السوابق القضائية” واعتبارها حجة ملزمة في إصدار الأحكام القضائية وسن القوانين التشريعية، وهذا الخلاف تجسد على مذهبين:

الأول: المذهب اللاتيني

فالنظام القضائي اللاتيني (في فرنسا وألمانيا مثلا) يعتبرها “مصدرا تفسيريًا” للقوانين، ويجعل المصدر الرئيسي للقانون “التشريع”. ويقصر النظام اللاتيني وظيفة السوابق القضائية على مساعدتها القضاة في “تفسير” القواعد القانونية المكتوبة، و”استئناسهم” بحكمها في القضايا التي لا يجدون فيها قاعدة في القوانين المكتوبة.

ويحتج أصحاب النظام اللاتيني لمذهبهم القانوني، بضرورة تطبيق مبدأ “الفصل بين السلطات” الذي يجعل للبرلمان حق سن القوانين، بينما يوكل تطبيقها فقط إلى السلطة القضائية، فإذا أعطيت الأخيرة حق سن القانون فقد أخذت ما ليس حقا لها.

الثاني: المذهب الانجلوسكسوني:

(بريطانيا وأميركا مثلًا) فيجعل السوابق القضائية من أهم المصادر الرسمية التي يعتمد عليها القضاة في إصدار أحكامهم، وفي صياغة القواعد والمبادئ القانونية، سعيًا للتسوية بين الخصوم والحد من تعارض الأحكام القضائية في القضايا المتماثلة. ويعيبون مذهب الإلزام بالسوابق بأمور منها أنه عرضة للتغير السريع الذي يطرأ على الوقائع التي ينظرها القضاء، مما يوجب التحول إلى حكم آخر غير حكم القضايا السابقة.

ويحتج النظام الأنجلوسكسوني لمذهبه في إلزامية السوابق القضائية، بأنها تساهم في تعريف المحامين وموكليهم بما يتجه إليه الحكم منذ بداية رفع الدعوى، كما تخفف معاناة القاضي اللاحق في حسم القضية المرفوعة باستفادته من خبرات القضاة السابقين. لكن حجية السوابق القضائية في هذا النظام إنما هي في “نص الحكم” المتعلق بالوقائع التي فصَل فيها الحكم القضائي، وأما الحيثيات العرضية الواردة في سياق القرار فإنها تظل صالحة “للاستئناس” فقط.

 

رابعا: موقف الفقه الاسلامي:

النظام القضائي الإسلامي متقدم تاريخيًا على النظام الفقهي القانوني المذكور سابقا، فإن السوابق القضائية وكذلك السوابق في الفتاوى تكون “إنشاءً” اجتهاديا للحكم في خصومة لم يتقدم فيها تقرير لحكم شرعي. ولذلك فإن أخذ القضاة بالسوابق القضائية الشرعية، يقتصر على الاستئناس بها ولا يصل حد الإلزام، بل إن الاستئناس بها مشروط بصحة مأخذ اجتهاد القضاة السابقين عند تقعيد الحكم وتأصيله، وبتمام المطابقة بين الواقعتين محل النزاع، وإلا فإنه لا يصح الأخذ بالسابقة القضائية مجددًا حتى للقاضي الذي أصدرها أول مرة. ويرى بعض المذاهب الفقهية الاسلامية، أنه إذا استقر العمل بالسابقة القضائية صارت أصلًا يلزم العمل به مراعاة لقاعدة “ما جرى به العمل”، ولا يجوز للقضاة اللاحقين الخروج عنها إلا بمرجح معتبر.

 

خامسا: موقف التشريعات اليمنية:

المتأمل لنصوص التشريعات اليمنية، يتضح له أنها أقرّت السوابق القضائية من الناحية التشريعية، وبالذات النصوص المنظمة لاختصاصات المحكمة العليا، وكذا الاجتهادات القضائية الصادرة من دوائرها، فأحكام محكمة النقض اليمنية لازمة التطبيق على المحاكم الادنى درجة في ثلاث حالات:

– الحالة الاولى/ الأحكام الصادرة بإرساء مبدأ قضائي:

ويكون ذلك إذا أرسى حكم النقض مبدأ قضائياً في حال توافر ثلاث صور:

– الصورة الاولى/ تفسير نص قانوني مُبهم مختلف في تأويله من قبل المحكمة الابتدائية من جهة، والمحكمة الاستئنافية من جهة أخرى، أو في حال تفسير نص مبهم أو غامض مختلف في تأويله بين أطراف القضية من جهة، والمحكمة مصدرة الحكم من جهة أخرى، كل ذلك شريطة أن لا يكون هناك تفسير سابق للنص الغامض صادر من الجهة التشريعية.

– الصورة الثانية/ البحث عن حل قانوني لواقعة محددة ومعروضة على المحكمة مصدرة الحكم، بحيث لم تجد لها نصاً قانونياً يعالجها بشكل واف، سواءً بسبب نقص أو إغفال أو سكوت تشريعي.. فهنا يجب أن تجتهد محكمة النقض لتغطية هذا النقص التشريعي بشرطين: الاول/ إلا يكون هذا النقص قد وصل الى حد القصور التشريعي، فهنا ينتقل اختصاصه الى السلطة التشريعية. والثاني/ أن لا يكون اجتهادها مخالفاً لنص قانوني صريح أو مناقضًا له.

– الصورة الثالثة/  صدور حكمين أو أكثر شابهم التناقض التام سواءً ،كان صادرًا من دوائر مختلفة تتبع محكمة النقض أو دائرة واحده، وهنا يكون الدور على الجمعية العمومية مجتمعة لمعالجة هذا التناقض، بالاستناد لنص المادة (٣٠٢ مرافعات).

–  الحالة الثانية/ الاحكام الصادرة بالنقض:

وتكون في حال تكرار الاخطاء والقصور في الأحكام المنقوضة الصادرة من المحاكم الاستئنافية أو الابتدائية، حيث يجب على المحكمة العليا حصر تلك الاخطاء والمخالفات المتكررة في الأحكام المنقوضة (كل هذا بالرجوع للفقرتين ٦ و٧ من المادة ٣٥ من لائحة تنظيم المحكمة العليا)، وصولًا لإصدار منشورات قضائية من المحكمة العليا، تتضمن توجيهات وقرارات واجبه وملزمة على المحاكم الادنى، (وذلك بالاستناد لنصوص المواد ١١ فقرة ٥ ،  ١٣ فقرتا ج، د من قانون السلطة القضائية).

– أما الحالة الثالثة: الأحكام المرجعة:

وتكون إلزامية في صورتين:

– الاولى/ اذا كان الارجاع من محكمة النقض للمحكمة الاستئنافية (تطبيقًا للفقرة الاخيرة من المادة ٣٠٠ مرافعات)، والتي تجيز نقض الحكم وارجاعه الى المحكمة التي اصدرته متبعة توجيهات حكم النقض.

– الثانية/ إذا كان الارجاع من محكمة الاستئناف الى المحكمة الابتدائية (تطبيقًا لنص ٢٨٨ فقرة ب مرافعات) وتبين فيه الاستئنافية بأن الابتدائية لم تفصل في مسألة موضوعيه متعلقة بالقضية، كل ذلك لعدم تفويت درجة من درجات التقاضي على أطراف الخصومة.

وعلى الرغم من أن البعض ينكر الزامية السابقة القضائية في التشريعات اليمنية، مستندًا في ذلك للفقرة قبل الاخيرة من المادة (١) من القانون المدني بقولها: (ويستأنس برأي من سبق لهم اجتهاد من علماء فقه الشريعة الاسلامية)، إلا أن هذا الاستناد مردود عليه؛ لان المشرّع لم يذكر السابقة القضائية المستندة لاجتهاد قضائي بمناسبة قضية صدر بشأنها حكم قضائي، وصادر من محكمة شرعيه وقانونية وبشكل خاص ومقيد، بل عممها على الاجتهادات غير الملزمة الصادرة من علماء الشريعة وبصفة عامة. كما ان الزامية تطبيق الاجتهاد القضائي أو السابقة القضائية، تطرقت له قوانين خاصه متعلقة بتنظيم القضاء كقانون السلطة القضائية ولائحة المحكمة العليا، وقوانين متعلقة بنظر الدعوى القضائية كقانون المرافعات.. وهي قوانين خاصه اولى بالتطبيق!

وفي الاجمال، يتضح لنا من خلال سرد النصوص القانونية السابقة، وما حوته من أحكام تفيد بالإقرار بنظام السابقة القضائية من الناحية التشريعية، فالمشرع حينما ألزم الدائرة التي توصلت لاجتهاد يخالف اجتهاداً سابقاً او اجتهاد دائرة أخرى في نفس المسألة أو للوصول الى حل بين حكمين متناقضين، كل ذلك وفقًا لنص المادة (٣٠٢ مرافعات)، فيجب ان ترفع الاجتهاد لرئيس المحكمة لعرضه على الجمعية العمومية، والغاية من ذلك واضحة، وهي الحيلولة دون تناقض القواعد أو السوابق القضائية، وما ذلك الا كونها ملزمة للمحاكم الادنى فيما يتعلق بالقضايا المشابهة. بالإضافة الى ذلك، فان نصوص الفقرات الواردة في المواد القانونية المذكورة في قانون السلطة القضائية وكذا لائحة تنظيم المحكمة العليا، والتي تعد منشورات وتعاميم المحكمة العليا في العمل القضائي واجبه وملزمة على المحاكم الادنى، وهذا هو ما تنص عليه التشريعات اليمنية نصًا حرفيًا!!

 

سادساً: الواقع القضائي العملي:

إن الواقع العملي يرجح غالباً للتأكيد على عدم إلزامية أحكام المحكمة العليا على المحاكم الأدنى درجة، وهذا على عكس النصوص التشريعية كما اكدنا سابقًا، فالواقع يحكي خروج عدة قضاة في أحكامهم عن أحكام المحكمة العليا والتي أيدتها الأخيرة، ومن ثم نُفذت، وهذه الأحكام التي خرجت عن أحكام سابقة للمحكمة العليا لذات الموضوع والسبب وربما الأطراف. “ومن وجهة نظرنا المتواضعة”، ان هذا يرجع للاختلالات في العمل وضعف الاداء القضائي في سياق تراكم المخرجات، سواء في أقضية الاحكام، او الاداء المؤسساتي، وقد يكون هذا موقفًا مبررًا يدركه من يعيش واقعنا القضائي والمؤسساتي والاكاديمي… ومن المستحسن، أن يضيف الجهاز القضائي الادوات الموضوعية المساعدة للقاضي، كالمذكرات التوضيحية، واللوائح التنفيذية للقوانين،  وأيضًا الاعتناء والقيام بإعداد خطه شامله لإصدار المصنفات والمراجع القانونية المتعلقة بالفقهين القانوني والقضائي، والتي يجب أن ينتجها ويؤلفها الصف الاول من القضاة والاكاديميين والمحامين ذوي التجربة الطويلة.

ومن نافلة القول، هو وجوب التفرقة بين القاعدة القانونية من جهة، والقاعدة أو المبدأ القضائي من جهة أخرى، وذلك في أن القواعد القانونية تستند لنص قانوني معين، وهي ليست ملزمة على المحاكم وان جاز الاستئناس بها، بينما المبدأ القضائي يستند لاجتهاد حسب الحالات والصور المذكورة انفا، وهي ملزمة من الناحية التشريعية كما دللنا سابقًا بالنصوص القانونية.

 

وغني عن البيان، بان أهمية مقالنا هذا، تكمن في أن السوابق القضائية عنصر حيوي في الممارسة القانونية، فقد تكون القوانين غامضة أو صامتة بشأن قضايا محددة، مما يستلزم الاعتماد على السوابق القضائية لسد الثغرات. كما تشكّل السوابق القضائية جزءاً لا يتجزأ من الممارسة القانونية، ولقد أثبتت السوابق القضائية أنها أداة أساسية في تشكيل وتطور القانون. وبصفه عامه، لا توفر السوابق القضائية إرشادات للممارسين القانونيين فحسب، بل تسهم أيضاً في تطور القانون نفسه وتطويره، سيما مع ظهور قضايا قانونية جديدة، وبالذات القضايا المرتبطة بالتطور التكنولوجي والعولمة، سواءً كانت في المجال الجنائي أو المدني أو التجاري أو الاداري، وكذا مختلف قضايا العدالة المتجددة، حيث تتكلف المحاكم بتفسير القوانين الحالية لسد الثغرات في التشريعات. ومن خلال أحكامها، تتمتع المحاكم بالقدرة على تشكيل المبادئ القانونية، وتكييفها مع التغيرات المجتمعية، والتقدم التكنولوجي، والتحديات القانونية الناشئة، كما تعمل السوابق القضائية كقوة ديناميكية، مما يسمح للقانون بالتكيّف والبقاء ملائماً في عالم دائم التغير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قاض محكمة نقض

 

Loading