دراسات وبحوث

الطبيعة القانونية لدعوى الانعدام الأصلية وأثرها

المحامي الدكتور هشام قائد  الشميري

أجاز المشرع اليمني صراحة في المادة (57) من قانون المرافعات المعدل عام 2021م مواجهة الحكم المنعدم عن طريق دعوى أصلية مبتدأه ترفع أمام المحكمة التي أصدرت الحكم المدعى انعدامه أياً كانت درجتها والتي يتعين عليها رفع الدعوى والرد عليها والحكم المدعي بانعدامه إلى المحكمة العليا التي أنيط بها الاختصاص في نظر دعوى الانعدام الأصلية والفصل فيها وحدها دون غيرها من المحاكم الأخرى. وتعد دعوى الانعدام الأصلية إحدى الوسائل الهامة للتمسك بالانعدام، وتهدف إلى تأكيد عدم وجود الحكم وإقرار أن الحكم منعدم، والشائع في الفقه والقضاء تسمية هذه الدعوى ب”دعوى البطلان الأصلية” بالرغم من أن الرأي منعقد بأن هذه الدعوى تُرفع على الأحكام المنعدمة لا الباطلة، ونظراً لذلك ذهب جانب من الفقه إلى تسميتها ب”دعوى الانعدام الأصلية”.

غير أن الكثير من الجوانب المتعلقة بدعوى الانعدام الأصلية يشوبها الغموض واللبس، وكانت محل خلاف كبير لدى الفقه والقضاء خصوصاً الخلاف بشأن الطبيعة القانونية لدعوى الانعدام الأصلية الذي استتبع الاختلاف في الكثير من الأحكام والجوانب المتعلقة بها، وقد تمثل ذلك الخلاف في ثلاثة اتجاهات وهي:

الاتجاه الأول: ذهب جانب من الفقه إلى أن دعوى الانعدام الأصلية تعد طريقاً من طرق الطعن غير العادية وليست دعوى مبتدأه، فهي طريق طعن خاص ضد الأحكام المنعدمة ذات طبيعة خاصة تخضع لما يخضع له الطعون من أحكام عدا الميعاد. (د. خيري عبدالفتاح الانعدام الاجرائي في قانون المرافعات المصري ص129، د. هشام رشاد هيكل انعدام الحكم القضائي ص358، د. غنام محمد غنام الانعدام في قانون الإجراءات ص318، د. رؤوف عبيد نظرية المصلحة ص370) وهذا ما أخذ به جانب من أحكام القضاء العربي منها محكمة النقض السورية “نقض سوري الغرفة المدنية قرار رقم (1696) لعام 2000م مجلة المحامون العددان (11- 12) لعام 2002م”، والمحكمة الإدارية العليا المصرية “طعن إداري مصري رقم (967) لسنة 42ق جلسة 17/11/1996م وطعن اداري رقم (2000) لسنة40ق جلسة 29/4/1997م أشار اليها د. ماهر أبو العينين دعوى البطلان الأصلية بحث منشور في مجلة المحاماة العدد الأول سنة 2000م”.

الاتجاه الثاني: ذهب أغلب الفقه إلى أن دعوى الانعدام الأصلية ليست طريقاً من طرق الطعن في الأحكام، وإنما هي دعوى مبتدأه ترفع بصورة أصلية مستقلة، فهي عبارة عن دعوى تقرير سلبية مبتدأه تقدم بالإجراءات المعتادة لرفع الدعاوى عند توافر سبب من الأسباب المؤدية إلى انعدام الحكم بهدف إثبات حالة سلبية وهي عدم وجود الحكم والتقرير بانعدامه. (د. فتحي والي نظرية البطلان ص806، د. نجيب الجبلي قانون المرافعات اليمني ص430، د. محمود نجيب حسني شرح قانون الاجراءات ص356، د. عبد الرؤوف مهدي شرح القواعد العامة للإجراءات الجنائية ص124، د. أحمد عبد الحميد الانعدام في قانون الإجراءات الحنائية ص616، د. مصطفى محمد الشربيني بطلان إجراءات التقاضي ص1310- 1311) وهذا ما أخذ به جانب من أحكام القضاء العربي منها محكمة النقض السورية “قرار 183/ 2008 – أساس 232 – محكمة النقض الدوائر الجزائية قاعدة 87 مجلة المحامون 2010م العدد الاول والثاني”، وهو ذات ما أخذت به المحكمة العليا اليمنية في الكثير من أحكامها نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر “الحكم الصادر من الدائرة المدنیة الھیئة (أ) بتاريخ ٢٨ /٨/ ٢٠١٧م في دعوى الانعدام المقيدة برقم (٥٨٨٠٧) المحالة على الهيئة بقرار رئيس المحكمة العليا الصادر برقم (٢) وتاريخ ٣/١/ ٢٠١٧م، الحكم الصادر من الدائرة المدنیة الھیئة (أ) بتاريخ ٣٠ ذي الحجة ١٤٣٦هـ الموافق ١٣ /١٠/ ٢٠١٥م في دعوى الانعدام رقم (٥٤٣٣٦)لعام ١٤٣٥هـ”.

الاتجاه الثالث: ذهب بعض الفقه إلى أن دعوى الانعدام الأصلية تشبه دعوى بطلان العقد التي ترفع أمام محكمة أول درجة في جميع الأحوال.  (د. طلعت يوسف خاطر الانعدام الإجرائي في قانون المرافعات المصري ص194، د. أحمد ماهر زغلول الحجية الموقوفة ف86، د. فتحي المصري بكر قوة الشي المقضي به في المجال الجنائي ص807).

وبدورنا نرى أن دعوى الانعدام الأصلية هي دعوى مبتدأه ذات طبيعة خاصة تهدف إلى إثبات وتقرير انعدام الحكم، وهي ليست طريقاً من طرق الطعن في الأحكام؛ وذلك لأن دعوى الانعدام لا تقيد بميعاد معين، بل إن دعوى الانعدام تختلف عن التماس إعادة النظر من حيث الأسباب التي يقوم عليها كل منهما ومن حيث إجراءات كل منهما لذا لا يجوز للطاعن في التماس إعادة النظر أن يعدل سبب طعنه من كونه التماس إعادة النظر إلى اعتباره دعوى انعدام أصلية إذا ما تبين له أن الالتماس غير مقبول وذلك لاختلاف أساس وإجراءات كل منهما. كما أن دعوى الانعدام الأصلية ليست مثل دعوى البطلان ضد التصرفات القانونية، وذلك للاختلاف بينهما في السبب والمحل، حيث أن سبب دعوى بطلان التصرفات هو بطلان التصرف القانوني كبطلان العقد لعيب في الإرادة بينما سبب دعوى انعدام الأحكام هو انعدام الحكم ذاته وليس بطلانه، كذلك أن محل دعوى بطلان التصرفات هو طلب إلغاء التصرف القانوني بينما محل دعوى انعدام الحكم هو تقرير انعدام الحكم، أضف إلى ذلك أن دعوى الانعدام الأصلية ذاتها تعتبر خروجاً على القواعد العامة وترد على حكم ولا تمنح إلا في حالات استثنائية.

وفي هذا الصدد قضت المحكمة العليا اليمنية في حكمها الصادر من الدائرةالمدنیة  الھیئة (أ) بتاريخ ٢٨ /٨/ ٢٠١٧م في دعوى الانعدام المقيدة برقم (٥٨٨٠٧) المحالة على الهيئة بقرار رئيس المحكمة العليا الصادر برقم (٢) وتاريخ ٣/١/ ٢٠١٧م بأن دعوى الانعدام دعوى وليست طريقاً من طرق الطعن بما  جاء ضمن أسبابه ما لفظه: (أما الدفع الذي أشار إليه المدعى عليه بالانعدام والذي استند فيه إلى حكم المادة (٣١٣) والتي تنص على أن:(الحكم الصادر بعدم قبول الالتماس شكلا أو بقبوله شكلا ورفضه موضوعاً لا يجوز الطعن فيه بأي طريق آخر أياً كانت المحكمة التي أصدرته أما إن كان صادراً عن المحكمة العليا فلا يجوز الطعن فيه مطلقاً)، لم يدرك المدعى عليه بالانعدام أن الاستناد إلى حكم المادة المذكورة لا يفيده في شيء بشأن دعوى الانعدام كون دعوى الانعدام دعوى وليست طريقاً من طرق الطعن سواء كانت عادية أو غير عادية). وقضت أيضاً في حكمها الصادر من الدائرة المدنیة الھیئة (أ) بتاريخ ١٣ /١٠/ ٢٠١٥م في دعوى الانعدام رقم (٥٤٣٣٦)لعام ١٤٣٥هـ بأن دعوى الانعدام دعوى موضوعیة خاصة بالأحكام وليست طعناً بما جاء ضمن أسبابه مالفظه: (لوحظ أن محامیي المدعى علیه تقدما بدفع بعدم قبول دعوى الانعدام لعدم جواز الطعن في أحكام الانعدام عملا بنص المادة(٥٨/أ) مرافعات وأن الطعن في حكم الانعدام بطریق دعوى الانعدام غیر جائز قانوناً وغیر سدید كون دعوى الانعدام دعوى موضوعیة خاصة بالأحكام أساسها أسباب مخصوصة محددة على سبیل الحصر أیاً كان الحكم المدعى انعدامه” حكم محكمة ابتدائیة  أو حكم محكمة استئنافیة أو حكم محكمة علیا”، وحكم نص المادة (٥٨/أ)التي تنص على أن(ویعتبر الحكم الصادر في الدفع أو الدعوى بالانعدام غیر قابل للطعن فیه بأي طریق كانت) صریح لا یحتمل تعدیه إلى دعوى الانعدام لأنها لم تكن طعناً أیاً كان طریقه ولذلك فلا نظر في تفصیل ما طرح في هذا الدفع وكذا ما رد به محامي مدعیة الانعدام).

وبناءً  على ما سبق من اعتبار دعوى الانعدام بمثابة دعوى مبتدأة فإن دعوى الانعدام ترفع بالإجراءات المعتادة لرفع الدعاوى طبقاً لنص المادة (104) مرافعات، وذلك بصحيفة تودع قلم كتاب المحكمة مرفقاً بها الحكم محل الدعوى وموضحاً فيها أسباب وطلبات دعوى الانعدام، ويجب أن تشتمل صحيفة دعوى الانعدام على طلب التقرير بانعدام الحكم وإعادة الفصل في موضوع القضية من المحكمة مصدرة الحكم محل الدعوى إن شاء ذلك صاحب المصلحة، بحيث تنتج الدعوى آثارها بمجرد إيداع الصحيفة قلم الكتاب بعد أداء الرسم كاملا، ويجب أن تشتمل صحيفة الدعوى البيانات المتعلقة بالمدعى عليه والبيانات المتعلقة بتاريخ تقديم الصحيفة والمحكمة المرفوع أمامها الدعوى ومحل الدعوى وسببها. ويقتصر موضوع دعوى الانعدام إذا كان محلها حكماً ابتدائياً أو استئنافياً على المطالبة بتقرير انعدام الحكم وإلغائه وسحبه دون الفصل في موضوع النزاع من جديد وإنما يتعين على المحكمة العليا إذا ثبت لها صحة الدعوى أو الدفع بالانعدام إعادة القضية إلى المحكمة التي أصدرته أو المحكمة المختصة للحكم في موضوع القضية مجدداً، بحيث تعود الخصومة إلى الحالة التي كانت عليها قبل صدور الحكم المنعدم لاستيفاء ما كان سبباً في انعدام الحكم واستكمال الإجراءات من آخر إجراء صحيح تم في الخصومة أو تعاد الخصومة من جديد بإجراءات صحيحة إذا كانت الأولى معدومة، وهذا ما قررته صراحةً المادة (57) من قانون المرافعات المعدلة عام 2021م بما نصت عليه في الفقرة (هـ) من أنه: (إذا ثبت للمحكمة العليا صحة الدعوى أو الدفع بالانعدام فعليها الحكم بذلك وإعادة القضية إلى المحكمة التي أصدرته أو المحكمة المختصة للحكم في القضية مجدداً). أما إذا كان محل دعوى الانعدام حكماً صادراً من المحكمة العليا فإن موضوعها لا يقتصر على المطالبة بتقرير انعدام الحكم وسحبه وإنما يشمل أيضاً المطالبة بإعادة الفصل في موضوع النزاع من جديد إن شاء ذلك صاحب المصلحة، فإذا صدر الحكم في دعوى الانعدام الأصلية بقبولها فإن ذلك يستتبع الحكم بإلغاء وسحب الحكم ويستتبع أيضاً الفصل في موضوع النزاع من جديد إن شاء ذلك صاحب المصلحة بحيث تعود الخصومة إلى الحالة التي كانت عليها قبل صدور الحكم المنعدم لاستيفاء ما كان سبباً في انعدام الحكم واستكمال الإجراءات من آخر إجراء صحيح تم في الخصومة أو تعاد الخصومة من جديد بإجراءات صحيحة إذا كانت الأولى معدومة.

ويكفي لقبول دعوى الانعدام الأصلية تقديمها من الشخص نفسه أو من وكيله بموجب توكيل رسمي، سواءً  أكان الوكيل من المحامين أو الأزواج والأقارب والأصهار إلى الدرجة الرابعة وفقا لنص المادة (117) مرافعات، وسواء أكان ذلك التوكيل توكيلاً عاماً أم توكيلاً خاصاً؛ وذلك لأن المشرع لم  يوجب في دعاوى الانعدام توكيلا خاصاً، وأن الأعمال والتصرفات التي تحتاج إلى توكيل خاص قد نص عليها القانون على سبيل الذكر، بل إن المشرع قرر عدم وجوب التوكيل الخاص إلا في  التصرفات التي نص القانون فيها على وجوب توكيل خاص، فقد نصت المادة (120) مرافعات على انه: (لا يصح لغير الوكيل المفوض بتفويض خاص الإقرار بالحق المدَعى به أو التنازل عنه أو الصلح أو التحكيم فيه أو قبول اليمين أو توجيهها أو ردها أو التنازل عن الخصومة أو عن الحكم أو عن الطعن فيه أو عن التأمينات مع بقاء الدين أو الادعاء بالتزوير أو رد القاضي من نظر الدعوى أو مخاصمة أو رد العدل أو الخبير أو أداء الحق المدّعى به أو عرضه على الخصم عرضاً فعلياً أو قبول الأداء أو العرض من الخصم أو أي تصرف آخر ينص في القانون على وجوب توكيل خاص).

كما يكفي لقبول دعوى الانعدام الأصلية أن ترفع من ذي مصلحة ولو لم يكن له صفة، حيث أن رفع دعوى الانعدام الأصلية يكون لكل من له مصلحة في التمسك بانعدام الحكم ولا يلزم أن يكون صاحب صفة حتى يتمسك به، فلا يتطلب أن يكون طرفاً في الخصومة الصادر فيها الحكم وإنما يكفي أن يكون خصماً حقيقياً وجهت إليه طلبات من خصمه؛ ويرجع ذلك لما لموضوع دعوى الانعدام الأصلية من صفة استثنائية، فقد يكون المتضرر من الحكم المنعدم هو الغير الذي لم يكن طرفاً في الخصومة الصادر فيها الحكم المنعدم كأن يقضي الحكم ضد شخص لم يكن طرفاً في الخصومة فهنا يكون المتمسك بالانعدام هو الغير مبتغياً زوال هذا الحكم الذي قضى عليه دون اختصامه، كما أن المشرع أجاز للخارج عن الخصومة الطعن في الحكم بالتماس إعادة النظر فإنه من باب أولى يجوز له رفع دعوى الانعدام الأصلية ما دامت توجد له مصلحة في رفعها.

والله ولي الهداية والتوفيق،،،،

Loading