كتابات

نحو شركات المساهمة العامة لأجل تنمية الاقتصاد الوطني

بقلم المحامي. الدكتور/ هشام قائد عبد السلام الشميري

 

يتميز وقتنا المعاصر ببروز ظاهرة المشروعات الكبرى في ممارسة النشاط الاقتصادي، وقد أثبتت التجارب الإنسانية في مجال المعاملات التجارية أن المشروع الجماعي أقدر من المشروع الفردي على مضاعفة الأرباح من خلال قدرته على تجميع رؤوس الأموال اللازمة للنهوض بالمشاريع الضخمة من جهة ومن جهة أخرى تخفيف حجم المخاطر التي يعرفها عالم التجارة والأعمال، وبالتالي تعاظم أهمية الشركات التجارية في تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية، فالشركات التجارية باعتبارها أدوات قانونية واقتصادية تعد مؤشراً كبيراً على مدى نمو الحياة الاقتصادية عموماً وسعة النشاط التجاري الممارس على وجه الخصوص، وتبعاً لذلك فقد تطورت النظم القانونية التي تحكم الشركات التجارية وبرزت أنماط عديدة منها وأصبح لكل نمط قواعده وأحكامه الخاصة.

ولعل أهم أنواع الشركات التجارية رواجاً هي شركات المساهمة، إذ تعد أينع ثمرة تمكن بفضلها من التغلغل والتوسع على المستويين الداخلي والدولي، ذلك أنها الاقدر بين كل أنواع الشركات الأخرى على تجميع رؤوس الأموال وتركيزها، كما كانت ولازالت تشكل الأداة القانونية المثلى لتحقيق سيطرة رأس المال اجتماعياً وسياسياً، وشركات المساهمة تعد قلب شركات الأموال، وذلك لما لها من قدرة على تجميع رؤوس أموال كبيرة واضطلاعها بالقيام بالنشاطات الاقتصادية ذات الأهمية المؤثرة باعتبارها تشكل أداة لتجميع المدخرات الوطنية ووسيلة قانونية هامة لتنظيم المشاريع الاقتصادية الكبرى، كما أن شركات المساهمة عن طريق ما تدفعه من رسوم وضرائب تعتبر ممولاً هاماً للخزينة العامة، هذا بالإضافة إلى أن شركات المساهمة تلعب أيضاً دوراً اجتماعياً هاماً إذ توفر الكثير من فرص العمل والتشغيل للأفراد والمؤسسات.

وتمثل شركات المساهمة ركناً أساسياً يتعذر بدونه تشييد صرح النهضة الاقتصادية بالنظر إلى الدور الكبير الذي تلعبه في ميادين التنمية والتشغيل، ويساعدها في ذلك قدرتها على الوصول بأيسر السبل إلى تكوين رؤوس أموال طائلة عن طريق طرح سنداتها للاكتتاب لدى الجمهور وهو ما يؤهلها لأن تكون ذات تأثير كبير على المجالات الاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى السياسية، وما يفسر قدرة شركات المساهمة على تجميع رؤوس الأموال الضخمة ومن ثم النهوض بالمشروعات الصناعية والتجارية الكبرى هو ما يتميز به نظامها القانوني من خصائص وسمات، فمن ناحية تتميز شركات المساهمة بضآلة القيمة الإسمية للأسهم التي تصدرها وهو ما يسمح لصغار المدخرين من المساهمة في رأسمالها، بالإضافة إلى قابلية أسهمها للتداول الحّر بالطرق التجارية حيث تطرح أسهمها للاكتتاب لا سيما من قبل الجمهور لجمع رأس المال اللازم لممارسة نشاطها التجاري المحدد في قانونها الأساسي، وبعد التأسيس يستطيع المساهم التنازل عن الحقوق الثابتة في السهم عن طريق تداول أسهمه، وبفضل هذا التداول التجاري للأسهم أصبحت هذه الأخيرة محل مضاربات في الأسوق المالية المنظمة التي تعرف بـ”البورصة”، ولذلك فإن شركات المساهمة لاسيما الشركات الكبرى التي تلجأ إلى الادخار تضم أعداداً كبيرة وضخمة من المساهمين قد تصل إلى الآلاف، بل والملايين.

وتُعتبَر شركات المساهمة العامة من أهم شركات المال نتيجة الدور البارز الذي تلعبه في تعزيز أداء الاقتصادات الوطنية، إذ أصبحت مرآة عاكسة لأدائها، إضافة إلى مساهمتها في إعادة توزيع الدخل القومي ورفع مستوى معيشة أعداد كبيرة من المواطنين من الطبقات الوسطى والفقيرة نتيجة قاعدتها العريضة من المساهمين الذين لا تسمح مدخرات معظمهم ودخولهم بإنشاء مشاريع اقتصادية وإدارتها والذين يفتقرون إلى الخبرة اللازمة لإنشاء هذه المشاريع، وإلى القدرة على تحمل الأخطار في حال فشل هذه الشركات، ولذلك فإن مساهمتهم في الشركات المساهمة العامة وفرت لهم فرصة مهمة لتوظيف أموالهم وتحقيق عائدات تحافظ على القوة الشرائية لمدخراتهم وتحميها من سلبيات التضخم في ظل محدودية الفرص الاستثمارية البديلة، كما تساهم شركات المساهمة العامة في تنمية الوعي الادخاري والاستثماري وتشجيعه لدى شرائح كبيرة من المواطنين، إضافة إلى مساهمتها في توزيع مكاسب التنمية ونمو الاقتصاد لصالح أكبر شريحة من المواطنين، والمتعارف عليه أن أداء الأسواق المالية مترابط بشكل كبير مع النمو والتطور الاقتصادي نتيجة نظرة المستثمرين التفاؤلية إلى الشركات المساهمة العامة وأدائها المستقبلي نظراً إلى النمو الاقتصادي المتوقع بالإضافة إلى عامل الثروة إذ يساهم ارتفاع الأسعار في زيادة ثروة المستثمرين في الأسواق وبالتالي زيادة إنفاقهم واستهلاكهم بما يدفع عجلة النمو الاقتصادي قدماً، والعكس صحيح أيضاً فإن ارتفاع الثقة في الشركات المساهمة العامة من شأنه أن يؤدي إلى زيادة عدد شركات المساهمة وزيادة نشاط سوق الاكتتابات الأولية ومن ثم توسيع الفرص الاستثمارية المتوافرة وتنويعها وزيادة تدفق الاستثمارات الأجنبية ما يؤدي إلى ارتفاع احتياطات الدولة من العملات الأجنبية.

وقد بدأ إنشاء شركات المساهمة العامة في اليمن منذ بداية الستينات من القرن العشرين، حيث تم تأسيس شركات كبرى في تلك الفترة أهمها البنك اليمني للإنشاء والتعمير الذي تأسس عام 1962م وشركة التبغ والكبريت الوطنية التي تأسست عام 1963م، وقد أخذ الجمهور اليمني يكتتب في أسهم هذه الشركات والتعامل بها منذ ذلك التاريخ، غير أن شركات المساهمة في اليمن شهدت خلال منتصف تسعينات القرن الماضي تراجعاً كبيراً لاسيما بعد فشل الشركة اليمنية للأسماك التي تسببت في ضياع حقوق المساهمين فيها كأن شيئاً لم يكن، وهو ما أدى إلى تراجع الثقة في الاستثمار في شركات المساهمة العامة وتوقف الإصدارات الجديدة وطرح أسهم شركات مساهمة عامة أو إنشاء شركات مساهمة عامة جديدة نتيجة التخوف من عدم إقبال المستثمرين على الاكتتاب في الأسهم، هذا بالإضافة إلى غياب سوق منظم لتداول الأوراق المالية فقد كان التعامل بها يتم من خلال مكاتب غير متخصصة أو ما يسمى بالسوق غير المنظم، وقد كان لهذا التراجع الذي شهدته شركات المساهمة العامة انعكاسات سلبية على أداء الاقتصاد وإيجاد فرص عمل جديدة وتعزيز أداء القطاعات الاقتصادية المختلفة.

وإن تشجيع الأفراد على ادخار أموالهم في شركات المساهمة يحتم ضرورة حماية حقوق المساهمين ليس باعتبارهم شركاء وأعضاء في الشركة فحسب، وإنما باعتبارهم أيضاَ مدخرين ومستثمرين في القيم المنقولة التي تصدرها هذه الشركات، وهذه الحماية تستوجب اتخاذ جميع التدابير اللازمة وتكريس الضمانات الكافية لتأمين المدخر من المخاطر غير التجارية التي يمكن أن تمس استثماره في القيم المنقولة التي منها الأسهم، فالمساهم المدخر إذا كان يبحث عن تحقيق الربح إلا أنه يبحث قبل كل شيء عن الأمان أي ضمان أمن استثماره، وهنا تتدخل القوانين التجارية والاقتصادية لتقرير هذا الأمان والحماية، ولم تعد الحوافز المالية كالتخفيضات الضريبية وغيرها من التسهيلات الأخرى هي العوامل الوحيدة المساعدة في جذب الاستثمار مع أهميتها في هذا المجال، بل إن هناك عوامل أخرى تشكل حداً فاصلاً تتعلق أساساً بمدى استقرار البيئة السياسية والاقتصادية والقانونية في الدولة الذي يتوقف على وجود نظام قانوني قوي وفعال للحماية يكفل تحقيق الأمن والشفافية، وتعد حماية الاستثمار الذي من صوره شركات المساهمة وحقوق المساهمين فيها من أهم العوامل والمعايير المعتمدة حالياً لتقييم مدى توفر ظروف وشروط الاستثمار في أي دولة، إلا إن إيجاد الإطار القانوني لحماية الاستثمار وتحقيق التنمية وتعزيز المنظومة التشريعية والإجراءات القضائية التي تكفل تحقيق الاطمئنان لكافة الأطراف “الدولة، الشركات، المستثمر، العمال” هو المرتكز الأساسي للنهضة الشاملة في دولة القانون والمؤسسات. وعلى هذا الأساس نجد أن كل الدول تحرص وتراهن على خلق بيئة ملائمة لتشجيع مثل هذه الشركات، وذلك من خلال توفير كل الضمانات القانونية والاقتصادية لتطويرها وتنميتها بقصد الرقي بقطاع الاستثمار الداخلي والأجنبي، ومن خلال التدقيق في الأساليب والتقنيات القانونية التي أصبحت تعتمدها هذه الشركات في سبيل تركيز مشروعاتها مع استحداث مبادئ قانونية وآليات تشريعية قادرة على ضمان الرقي بها.

والملاحظ أن التشريعات التجارية والاقتصادية في اليمن خصوصاً قانون الشركات التجارية قد اعتراها غياب النظرة الشاملة المبنية على وضوح النظر والرؤية وغياب الاستراتيجيات وغياب التنسيق بين القطاعات المعنية وعدم مراعاة الانعكاسات المتوقعة على المصالح العامة والخاصة وعدم قدرته على التعبير عن الاتجاه التحديثي المستقبلي المعبر عن رؤيا حيوية للدولة لحدوث تغيرات على المستوى العام وبما ينعكس على التنمية وتطوير البنى المؤسسية الكفيلة بتحقيق أهداف الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وحيال ذلك تظهر الحاجة إلى إعادة النظر في نصوص قانون الشركات التجارية الذي يعتبر الإطار القانوني الأصيل لتنظيم الشركات التجارية في كافة مراحلها والذي جاءت نصوصه لاسيما المنظمة لشركات المساهمة مشوبة بالقصور وعدم الواقعية فقد أثبت الواقع أن هناك فجوة بين ما هو منصوص عليه قانوناً وبين ما هو موجود فعلاً، الأمر الذي يستلزم ضرورة تعديل نصوص قانون الشركات التجارية مع الاستفادة من تجارب الدول في هذا المجال بحيث تتسم نصوص القانون بالمرونة الكافية والتسهيلات الجاذبة بما يواكب المستجدات في عالم المال والأعمال وما فرضته الثورة التكنولوجية من تطورات متسارعة تدفع نحو ضرورة تسهيل الإجراءات وتقديم أبسط الطرق لجذب الاستثمارات وقيام الكيانات الاقتصادية التي تحقق الرؤية الوطنية المستقبلية في تفعيل دور القطاع الخاص في منظومة الاقتصاد الوطني، مع وضع الآليات المناسبة لتعزيز الثقة في الاستثمار في شركات المساهمة العامة وتوفير ضمانات ووسائل الحماية الكافية للمساهمين المدخرين بحيث تستمر في القيام بدورها الاقتصادي والاستثماري والمالي.

وانطلاقاً من تطلعنا نحو إحياء عملية التنمية الاقتصادية في اليمن بغرض الارتقاء بالاقتصاد الوطني الذي يعد ضمن أولويات الرؤية الوطنية التي يتبناها المجلس السياسي الأعلى في تفعيل دور القطاع الخاص في منظومة الاقتصاد الوطني ليكون شريكاً أساساً في برامج وخطط التنمية الشاملة وفي تهيئة البيئة الجاذبة والمشجعة للاستثمار سواءً المحلي أو الأجنبي، فإننا نقترح إعادة النظر في نصوص قانون الشركات التجارية خصوصاً النصوص المنظمة لشركات المساهمة ونضع بعض المقترحات المرتبطة بذلك أهمها:

  • تنظيم شركات المساهمة العامة بشكل واضح وكاف، مع مراعاة تسهيل وتيسير إجراءات تأسيس ذلك الشكل من الشركات التجارية نظراً للأهمية الاقتصادية التي باتت تحتله هذه النوعية من الشركات والتي تعتبر مؤسسات وطنية، ومع مراعاة تشجيع وتحفيز الشركات للتحول إلى شركات مساهمة عامة من خلال حزمة من الحوافز والامتيازات لتشجيعها على ذلك التحول ومن خلال إعطاء مؤسسيها الاحتفاظ بنسب أعلى من النسب المقررة لتملك المؤسسين في الشركات الحديثة.
  • تنظيم سوق رأس المال ومكونات هيكله التنظيمي بما يكفل بناء سوق رأسمال متين يتمتع بمستوى عال من الثقة والجاهزية التشريعية والتقنية التي تجعل من سوق رأس المال محركاً مستداماً للنمو الاقتصادي الشامل وتكوين الثروات، وكذلك تنظيم الهيئة العامة لسوق المال وبيان حدود السلطة المخولة للهيئة في المتابعة والإشراف والرقابة على شركات المساهمة العامة، مع إعطاء سلطات كاملة للهيئة في تنظيم أعمال الشركات المساهمة العامة بداية من تأسيسها والإشراف على أعمالها الإدارية بما يضمن أنها تسير وفق قواعد إدارية سليمة بما يحمي المساهمين، مع إعطاء الهيئة صلاحية التفتيش على شركات المساهمة العامة والشركات التابعة لها في أي وقت ومراقبة مدى التزامها بأحكام القانون.
  • إقرار النشر الإلكتروني والتواصل مع المساهمين عبر البريد الإلكتروني وذلك بغية الاستفادة من التقنيات الحديثة باعتبارها الوسيلة الأكثر انتشاراً، مع ضرورة استخدام شركات المساهمة مواقعها الإلكترونية على شبكة المعلومات لنشر المعلومات والبيانات الخاصة بها التي يحق للجمهور الاطلاع عليها، مع ضرورة وجود موقع مركزي لنشر المعلومات الخاصة بشركات المساهمة العامة.
  • تعزيز ممارسات الحوكمة الرشيدة في المنهجية الإدارية لشركات المساهمة العامة لما تحققه الحوكمة من الانضباط المؤسسي في إدارة الشركة وفقاً للمعايير والأساليب العالمية.

  والله ولي الهداية والتوفيق،،،،،

Loading