دراسات وبحوث

مصدر ووقت تحقق أثر الأسباب المؤدية إلى الانقضاء الإجرائي المبستر للخصومة

المحامي الدكتور/ هشام قائد عبد السلام الشميري

يقصد بالانقضاء المبستر للخصومة زوال الخصومة القضائية دون الحكم في موضوعها لأسباب موضوعية أو إجرائية. وقد يرجع الانقضاء المبستر للخصومة إلى أسباب موضوعية لا تؤدي إلى انقضاء الخصومة فحسب بل تؤدي أيضاً إلى انقضاء الحق في الدعوى الذي يمنع تجديد الخصومة مرة أخرى بالنسبة للموضوع كما في حالة انقضاء الخصومة بالتصالح أو التنازل عن الحق في الدعوى أو الحق المدعى به، وقد يرجع إلى أسباب إجرائية تؤدي إلى انقضاء الخصومة فقط دون انقضاء الحق في الدعوى كسقوط الخصومة أو تقادمها أو تركها أو شطبها أو اعتبارها كأن لم تكن.

وتعد الخصومة القضائية ركناً من الأركان الأساسية اللازمة لوجود العمل القضائي، حيث يتطلب لوجود العمل القضائي كقاعدة عامة صدوره في خصومة قضائية وإلا كان العمل منعدماً قانوناً لانتفاء ركن من أركانه الأساسية اللازمة لوجوده، فلا يُعد عملاً قضائياً ما يصدر في غير خصومة، وذلك وفقاً لنص المادتين (56، 217) من قانون المرافعات. وإذا كان وجود العمل القضائي يقتضي أن يصدر في خصومة قضائية فإنه يتعين أن تظل هذه الخصومة قائمة ومستمرة حتى صدور الحكم فيها، فلا يكفي لوجود العمل القضائي نشأة وانعقاد الخصومة القضائية وإنما يلزم لوجوده أيضاً أن تظل هذه الخصومة قائمة ومستمرة حتى صدور الحكم فيها، بحيث يكون العمل القضائي الصادر بعد زوال أو انقضاء الخصومة منعدماً لصدوره دون خصومة. وليس أدل على ذلك أن المشرع اليمني في المادة (217) مرافعات التي أوردت أركان الحكم الأساسية عرف الحكم بأنه:”قرار مكتوب صادر في خصومة معينة..”، ويستفاد من دلالة هذا النص القانوني أنه يتطلب لوجود الحكم بقاء الخصومة قائمة ومستمرة حتى صدور الحكم فيها وإلا كان الحكم الصادر بعد انقضاء الخصومة لأي سبب منعدماً لصدوره دون خصومة. ويستوي في ذلك أن يكون انقضاء الخصومة انقضاءً طبيعياً الذي يكون عادةً بالحكم في موضوعها والذي يؤدي إلى منع المحكمة من الخوض مجدداً في النزاع الذي فصلت فيه أو العدول عن حكمها أو تعديله، بحيث يترتب عليه انعدام الأعمال الإجرائية المتخذة من المحكمة بعد الفصل في النزاع. ويستوي أيضاً أن يكون انقضاء الخصومة انقضاءً مبستراً دون الحكم في موضوعها لأسباب موضوعية أو إجرائية، بحيث يترتب انعدام الأعمال الإجرائية المتخذة بعد انقضاء الخصومة المبستر أياً كان سبب هذا الانقضاء، سواءً أكان السبب أو الجزاء المؤدي إلى انقضاء الخصومة المبستر وجوبياً أم جوازياً متعلقاً بالنظام العام أم غير متعلق بالنظام العام.

ويتفق الفقه والقضاء على أن الانقضاء الاجرائي المبستر للخصومة المؤدي للانعدام يتحقق إذا حكمت المحكمة بأي سبب أو جزاء من الأسباب أو الجزاءات المؤدية لانقضاء الخصومة الاجرائي المبستر كلياً كسقوط الخصومة أو تقادمها أو تركها أو شطبها أو اعتبارها كأن لم تكن، حيث أن هذا الحكم يؤدي إلى زوال الخصومة القضائية واستنفاذ المحكمة ولايتها بالنسبة للدعوى مثله مثل انقضاء الخصومة الطبيعي، حتى ولو كان الحكم الصادر بالسبب أو الجزاء المؤدي إلى انقضاء الخصومة قد صدر دون توافر المقتضيات والشروط التي تطلبها القانون للحكم به، فإذا استمرت المحكمة بعد حكمها بأحد الأسباب أو الجزاءات الإجرائية المؤدية إلى انقضاء الخصومة المبستر كلياً في إجراءات نظر الخصومة وأصدرت حكم في موضوعها فإن هذه الإجراءات تكون منعدمة بما فيها الحكم الصادر في موضوعها؛ وذلك لأن الخصومة بعد حكم المحكمة بالسبب أو الجزاء الإجرائي المؤدي إلى انقضاء الخصومة تنعدم ولم يُعد لها وجود. وهذا ما قررته المحكمة العليا اليمنية في حكمها الصادر من الدائرة المدنية بتاريخ 11/9/2005م بقولها: (وحيث قد تبين صدور قرار شطب من هيئة الشعبة الاستئنافية السابقة لتخلف المستأنف عن الحضور ومع ذلك جاءت هيئة الشعبة الخلف واستمرت في نظر خصومة الاستئناف وعقدت عدة جلسات حتى النطق فيها بالحكم الذي انتهى إلى تقرير تأييد الحكم الابتدائي…فإنه مع هذا الحكم بشطب الخصومة يكون النزاع قد خرج من ولاية المحكمة وتستنفذ به المحكمة ولايتها في النزاع ما يمنع من الفصل في موضوع الاستئناف بعدئذ حتى ولو اتفق الخصوم على خلاف ذلك).

غير أن الجدل والخلاف لدى الفقه والقضاء دار حول مصدر ووقت تحقق أثر الاسباب المؤدية إلى انقضاء الخصومة الإجرائي المبستر في حالة ما إذا لم تقضِ به المحكمة، فهل يتحقق انقضاء الخصومة المبستر بقوة القانون بمجرد توافر المقتضيات والشروط التي تطلبها القانون للسبب أو الجزاء المؤدي إلى الانقضاء دون حاجة إلى الحكم به من المحكمة أم أنه لا يتحقق بمجرد توافر مقتضياته وشروطه التي تطلبها القانون وإنما من وقت صدور حكم من المحكمة به؟

يفرق الفقه الإجرائي بشأن مصدر ووقت تحقق أثر الانقضاء الإجرائي المبستر للخصومة بين فرضين هما:

الفرض الأول: إذا كان السبب أو الجزاء الإجرائي المؤدي إلى انقضاء الخصومة جوازياً.

يكاد يجمع الفقه على أن السبب أو الجزاء الإجرائي المؤدي لانقضاء الخصومة إذا كان جوازياً للمحكمة وليس وجوبياً، وتوافر مقتضياته وشروطه التي حددها القانون لإيقاعه دون أن تقضِ به المحكمة، فإن ذلك لا يؤدي إلى تعييب الخصومة، فلا يلحق الخصومة والحكم الصادر في موضوعها لا الانعدام ولا البطلان ولا غيره من الجزاءات الإجرائية الأخرى؛ لأن إعمال هذا السبب أو الجزاء الجوازي من عدمه يخضع للسلطة التقديرية للمحكمة. ومثال ذلك الجزاء المقرر في المادة (162) مرافعات التي أجازت للمحكمة اعتبار الخصومة كأن لم تكن إذا مضت مدة الوقف الجزائي للخصومة دون امتثال المدعي لأمر المحكمة، ومثاله أيضاً الجزاء المقرر في المادة (104/هـ) مرافعات التي أجازت للمحكمة اعتبار الدعوى كأن لم تكن لعدم إعلان صحيفتها للمدعى عليه خلال ستين يوماً من تاريخ رفعها.

الفرض الثاني: إذا كان السبب أو الجزاء الإجرائي المؤدي إلى انقضاء الخصومة وجوبياً.

يجمع الفقه على أن السبب أو الجزاء الإجرائي المؤدي لانقضاء الخصومة إذا كان وجوبياً وتوافرت مقتضياته وشروطه التي حددها القانون لإيقاعه دون أن تقضي به المحكمة بالرغم من تمسك الخصم صاحب المصلحة به فإن ذلك يؤدي إلى تعييب كافة الأعمال الإجرائية المتخذة في الخصومة بعد توافرها، غير أن الفقه اختلف بشأن نوع الجزاء المترتب على هذا العيب، فهل يؤدي إلى الانعدام أم البطلان فقط؟

ذهب جانب من الفقه الإجرائي إلى التفرقة بين الأسباب أو الجزاءات الوجوبية التي تقع بقوة القانون وبين الأسباب أو الجزاءات الوجوبية التي لا تقع بقوة القانون وإنما بحكم المحكمة،  فالأسباب أو الجزاءات الإجرائية الوجوبية المؤدية إلى انقضاء الخصومة المبستر بقوة القانون يتحقق أثرها في زوال الخصومة المترتب عليه الانعدام بمجرد توافر الشروط القانونية الموجبة لإيقاعها دون حاجة إلى الحكم بها من المحكمة الذي يُعد مجرد حكم مقرر لها وليس حكماً منشئاً لها، بينما الأسباب أو الجزاءات الإجرائية الوجوبية التي لا تقع بقوة القانون يتحقق أثرها في زوال الخصومة المترتب عليه الانعدام بالحكم بها من المحكمة الذي يُعد حكماً منشئاً لها ولا يتحقق بمجرد توافر الشروط القانونية الموجبة لإيقاعها الذي لا يعدم الخصومة وإنما يعيبها فقط بالبطلان. ووفقاً لهذا الرأي فإن مجرد توافر المقتضيات والشروط القانونية الموجبة لإيقاع السبب أو الجزاء الوجوبي المؤدي إلى انقضاء الخصومة المبستر بقوة القانون يعدم الخصومة ولا يعيبها بالبطلان فحسب بحيث تكون كافة الإجراءات التي تتخذها المحكمة في الخصومة بعد توافر تلك المقتضيات والشروط القانونية منعدمة بما في ذلك الحكم الصادر في موضوعها لصدورها في غير خصومة لأن السبب أو الجزاء الوجوبي المؤدي إلى انقضاء الخصومة المبستر الذي يقع بقوة القانون يتحقق أثره في زوال الخصومة بمجرد توافر مقتضياته وشروطه القانونية دون حاجة إلى الحكم به من المحكمة، بينما توافر المقتضيات والشروط القانونية الموجبة لإيقاع السبب أو الجزاء الوجوبي المؤدي إلى انقضاء الخصومة المبستر الذي لا يقع بقوة القانون وإنما يقع بحكم المحكمة به لا يعدم الخصومة وإنما يعيبها فقط بالبطلان بحيث تكون كافة الإجراءات التي تتخذها المحكمة في الخصومة بعد توافر تلك المقتضيات والشروط القانونية باطلة بما في ذلك الحكم الصادر في موضوعها لأن السبب أو الجزاء الوجوبي المؤدي إلى انقضاء الخصومة المبستر بحكم المحكمة وليس بقوة القانون لا يتحقق أثره في زوال الخصومة بمجرد توافر مقتضياته وشروطه القانونية وانما يتحقق أثره  بالحكم به من المحكمة.

بينما ذهب جانب آخر من الفقه الإجرائي إلى أن كافة الإجراءات التي تتخذها المحكمة في الخصومة بعد توافر المقتضيات والشروط التي حددها القانون لإيقاع السبب أو الجزاء الإجرائي الوجوبي المؤدي إلى انقضاء الخصومة المبستر تكون باطلة وليست منعدمة، سواءً أكان هذا السبب أو الجزاء الوجوبي يقع بقوة القانون أو بحكم المحكمة، وسواءً أكان متعلقاً بالنظام العام أو غير متعلقاً بالنظام العام.

وبدورنا نؤيد الرأي الأول الذي ذهب إلى أن الأسباب أو الجزاءات الإجرائية الوجوبية المؤدية إلى انقضاء الخصومة المبستر بقوة القانون يتحقق أثرها في زوال الخصومة المترتب عليه الانعدام بمجرد توافر الشروط القانونية الموجبة لإيقاعها دون حاجة إلى الحكم بها من المحكمة الذي يُعد مجرد حكم مقرر لها وليس حكماً منشئاً لها، بينما الأسباب أو الجزاءات الإجرائية الوجوبية التي لا تقع بقوة القانون يتحقق أثرها في زوال الخصومة المترتب عليه الانعدام بالحكم بها من المحكمة الذي يُعد حكماً منشئاً لها وليس بمجرد توافر الشروط القانونية الموجبة لإيقاعها الذي لا يعدم الخصومة وإنما يعيبها فقط بالبطلان. وسندنا في ذلك ما جاء في المادة (216) مرافعات المتعلقة بتقادم الخصومة من عبارة (فتسقط الخصومة بقوة القانون)، وما جاء أيضاً في المادة (211) مرافعات المتعلقة بالتنازل عن الخصومة من عبارة (يترتب على التنازل إلغاء)، وهاتين المادتين صرحتا بعباراتهما أن تقادم الخصومة بمضي المدة والتنازل عن الخصومة يقعان بقوة القانون بمجرد توافر مقتضياتهما وشروطهما القانونية. وفي المقابل جاء في المادة (215) مرافعات المتعلقة بسقوط الخصومة عبارة (ويتقرر السقوط بحكم)، وجاء أيضاً في المادة (112) مرافعات المتعلقة بشطب الخصومة عبارة (قررت المحكمة شطبها)، كما جاء في المادة (268) مرافعات المتعلقة باعتبار الخصومة كأن لم تكن عبارة (تحكم المحكمة باعتبار التظلم كأن لم يكن)، وهذه المواد القانونية صرحت بعباراتها أن تلك الجزاءات الوجوبية- سقوط الخصومة وشطبها واعتبارها كأن لم تكن- لا تقع بقوة القانون وإنما تقع بحكم المحكمة. ومما لا شك فيه أن تفرقة المشرع اليمني الصريحة بين الأسباب والجزاءات الوجوبية التي تقع بقوة القانون وبين الأسباب والجزاءات التي تقع بحكم المحكمة لم تكن عبثاً وإنما لأجل بيان وإيضاح اختلاف مصدر ووقت تحقق انقضاء الخصومة المبستر، ففي الحالة الأولى يتحقق انقضاء وزوال الخصومة بمجرد توافر الشروط القانونية الموجبة لإيقاعها دون حاجة إلى حكم بها من المحكمة، بينما في الحالة الثانية لا يتحقق زوال وانقضاء الخصومة بمجرد توافر شروطها القانونية وإنما بصدور حكم بها من المحكمة. أضف إلى ذلك أن عدم تعلق الجزاء أو السبب الوجوبي المؤدي لانقضاء الخصومة بقوة القانون بالنظام العام لا يمنع من القول بانعدام الإجراءات متى تمسك الخصم بالجزاء.

ومقتضى ذلك أن السبب أو الجزاء الوجوبي المؤدي إلى انقضاء الخصومة المبستر الذي يقع بقوة القانون يتحقق آثره القانوني في زوال وانقضاء الخصومة بمجرد توافر الشروط القانونية الموجبة لإيقاعه دون حاجة إلى الحكم به من المحكمة، بحيث تكون الإجراءات المتخذة بعد توافر الشروط الموجبة لهذا السبب بالرغم من تمسك الخصم صاحب المصلحة به منعدمة بما في ذلك الحكم الصادر في موضوعها لصدوره دون خصومة وفقاً لنص المادتين (56،217) مرافعات. وهذا بخلاف السبب أو الجزاء الوجوبي الذي لا يقع بقوة القانون فإن أثره القانوني في زوال الخصومة يتحقق بالحكم به من المحكمة وليس بمجرد توافر الشروط القانونية الموجبة لإيقاعه، بحيث تكون الإجراءات المتخذة في الخصومة بعد حكم المحكمة بهذا السبب أو الجزاء منعدمة بما في ذلك الحكم الصادر في موضوعها ولو لم يتمسك به الخصم صاحب المصلحة لصدوره دون خصومة وفقاً لنص المادتين (56،217) مرافعات، بينما تكون الإجراءات المتخذة بعد توافر الشروط القانونية الموجبة لإيقاع هذا السبب أو الجزاء بالرغم من تمسك الخصم صاحب المصلحة به معيبة بالبطلان وليس الانعدام لان مجرد توافرها لا يؤدي إلى زوال الخصومة وإنما يؤدي فقط إلى تعييبها.

Loading