دراسات وبحوث

قطاع الصلح والتحكيم في تسوية المنازعات

تفعيل الوسائل البديلة 

باحث قانوني ـ دكتور/ محمد يحي السلمي

كنا قد أوضحنا في دارسة سابقة منشورة لنا بأعداد هذه الصحيفة المتخصصة في شئون القضاء بأن من الأسباب الرئيسية المؤدية لإطالة إجراءات التقاضي أمام المحاكم هو عدم التناسب بين عدد القضاة وأعداد القضايا محل الفصل فيها بين الأطراف المتنازعة في الخصومات المدنية والتجارية والشخصية وغيرها مما مؤداه الحيلولة دون قيام المحاكم بتحقيق العدالة الناجزة على نحو تقديم خدمة قضائية ذات جودة شاملة لجمهور المتقاضين لإيتاء كل ذي حق حقه في أقل مدة زمنية ممكنة وبأيسر التكاليف.

ولما كنا بطبيعة الحال قد أشرنا كذلك بالمعالجة المقترحة لهذه المعضلة على نحو وجوب رفد المحاكم بالعدد الكافي من القضاة وبما يتناسب مع أعداد القضايا الواردة لكل محكمة وفقاً للإحصائيات الدورية المرفوعة للإدارات المعنية بأجهزة القضاء والقول بغير ذلك لن يحقق العدالة الناجزة مطلقاً، وفي هذا الصدد فإن التعديل التشريعي الصادر بالقانون رقم (1) لسنة 1446هـ  بتعديل بعض أحكام القانون رقم (1) لسنة 1991م بشأن السلطة القضائية لهو بحق خطوة جادة ومعالجة حقيقية للحد من اشكالية إطالة إجراءات إمد التقاضي لا سيما تضمين مواد التعديل أحكاماً بتعيين قضاة للعمل أعضاء في وظائف ودرجات السلطة القضائية يختارون من بين أساتذة كليات الشريعة والقانون بالجامعات اليمنية ومن علماء الشريعة الاسلامية الحاصلين على إجازات علمية في الفقه ـ وبالتالي فإن من شأن هذا التعديل المساهمة الفاعلة في الحد من تطويل مدة التقاضي ما لم يكن القضاء عليها برمتها، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على أداء القضاة لتحقيق سرعة الإنجاز والفصل في قضايا الخصوم في أقل مدة زمنية ممكنة وبأيسر التكاليف مما مؤداه بالفعل تحقيق العدالة الناجزة لجمهور المتقاضين محل آمالهم المتطلعة تحقيقه من قضاء الدولة (المحاكم)، وهو ما نعتقد بأنهم سيلمسونه بالفعل في الغد القريب حال ترجمة تعديلات نصوص قانون السلطة القضائية على ارض الواقع عند العمل بها بالمحاكم المختلفة.

ويجد المطلع وكل ذي صلة بعلم القانون وأحكام القضاء أنه بالإضافة لتلك المعالجات المشار إليها فإن الإدارة القضائية ما لبثت وأن وضعت بصمتها هي الأخرى للمساهمة في تحقيق العدالة الناجزة وكما هو كذلك من خلال رؤيتها الثاقبة وتوجهها الجاد نحو تفعيل العمل بالوسائل البديلة لتسوية المنازعات بين الأطراف (الصلح ـ التحكيم) بقيام الجهاز التنفيذي للسلطة القضائية “وزارة العدل وحقوق الإنسان” باستحداث قطاع الصلح والتحكيم ضمن قطاعاتها الإدارية المشار إليها باللائحة الصادرة بالقرار الجمهوري رقم (29) لسنة 1446هـ بشأن تحديد الأهداف والمهام والاختصاصات العامة والتقسيمات التنظيمية الرئيسية لوزارة العدل وحقوق الإنسان.

ولما كان المعلوم أن التحكيم قضاء قطاع خاص لتسوية المنازعات بين الإطراف خارج إطار النظام القضائي للدولة له حجيته القانونية ومدلوله الواقعي يتصدر هرم الوسائل البديلة لتسوية المنازعات (التحكيم ـ الصلح ـ الوساطة ـ مجالس التسوية) لانفراده بتلك الخصائص المميزة له عن القضاء العادي (قضاء الدولة) فإن من شأن توافره بشفافية مطلقة وتيسيره أمام جمهور المتقاضين بتنظيم فني دقيق هو بث الثقة فيه وتفضيلهم اللجوء إليه لتسوية منازعاتهم بدلاً من القضاء العادي الأمر الذي سيترتب عليه عندئذٍ التخفيف من ذلك الضغط والازدحام في القضايا والمنازعات القائمة امام المحاكم في الوقت المعاصر مما مؤداه عندئذٍ الحد من إطاله أمد التقاضي (حديث الساعة).

من أجل ذلك فإن آمال جمهور المتقاضين متطلعة للدور الإيجابي الذي سيتولاه قطاع الصلح والتحكيم وإداراته العامة وأقسامه المختلفة على نحو القيام بتفعيل تلك الوسائل البديلة (الصلح والتحكيم) لتسوية المنازعات بين الأطراف من خلال ما سينفرد بإخراجه من تنظيم فني دقيق منتظر ميلاده على نحـــــو شموليته تنظيم التحكيم أياً كان نوعه سواءً التحكيـم الحر (ِad hoc) أو التحكيم المؤسسي (مراكز التحكيم) من خلال وضع شروط ميسرة لإنشاء مراكز التحكيم يلزم توافرها ابتداءً لمنح ترخيص مزاولة النشاط وكذلك تنظيم معايير اختصاصاتها وكذلك وضع لائحة بتسعيرة أجر وأتعاب المحكمين مع تحقيق الرقابة عليها سواءً السابقة أو المعاصرة للنشاط أو اللاحقة عليه………….الخ ، لا سيما أن الواقع المعاش يصرخ بالقصور التشريعي في قانون التحكيم الصادر برقم (22) لسنة 1992م وتعديلاته النافذة لخلو نصوصه من تنظيم المسائل المشار إليها في الوسائل البديلة لتسوية المنازعات الأمر الذي جعل من تلك الوسائل والحال كذلك أن تكون بعيدة عن أذهان جمهور المتقاضين والأطراف المتنازعة بل وعزوفهم عن اللجوء المباشر إليها لتسوية منازعاتهم إلا في الاستثناء النادر.

لا سيما وأننا نعتقد أن سبب عزوف الأطراف عن اللجوء للوسائل البديلة لتسوية منازعاتهم هي ثقافة المجتمع السائدة نحو ضبابية تلك الوسائل أمامهم للقيام بتحقيق العدل والإنصاف في المنازعات- وما يعزز اعتقادهم ذلك تلك المظاهر المصاحبة لتلك الوسائل البديلة سواءً من حيث المبالغة في الأجور والأتعاب الباهظة التي يطلبها المحكمون أو من حيث عدم شفافية ووضوح تلك الوسائل امام الجمهور كآليات بديلة لقضاء الدولة قائمة على نظام قائم بذاته من شأنه خضوعها بقوة القانون لإدارة بعينها يستطيعون عندئذٍ اللجوء اليها عند اللزوم للتحقق من مصداقيتها وجديتها قبل وقوع الفأس في الراس ـ ناهيك أن تسوية النزاع بأي من تلك الوسائل البديلة هو طريق اختياري غير ملزم للأطراف ما لم يكونوا قد اتفقوا مسبقاً علي تسوية النزاع بطريق التحكيم بأي من صوره (شرط التحكيم او مشارطة التحكيم)، وغير ذلك من المثالب غير المحمودة الكامنة في الوسائل البديلة التي تجعل الاطراف يحبذون اللجوء للمحاكم لتتولي الفصل في منازعاتهم كونه الطريق الأمن امام اعينهم وأن كانت نتائجه طويلة المدى للفصل في الخصومة (إطالة إجراءات التقاضي).

لما كان ذلك كذلك هو واقع حال الوسائل البديلة فإن قيام قطاع الصلح والتحكيم بدوره الجاد المأمول به في هذا الشأن نحو التصدي لتلك العيوب التي تلبس ثوب التحكيم والوسائل البديلة التسوية المنازعات من خلال وضع الشروط الملائمة والمعايير الميسرة والشفافية المطلقة عند تنظيم تلك الوسائل لإخراجها الى النور، فإن ذلك من شأنه بالفعل بث الثقة فيها لدى الاطراف المتنازعة وقيامهم باللجوء اليها لتسوية منازعاتهم باتباع أي من قنواتها بدلاً من القضاء العادي (المحاكم).

وبدورنا نضع عدداً من المقترحات المتواضعة أمام جهة الإدارة المعنية بالصلح والتحكيم والتي من شأن الاخذ بها تحقيق تلك الغاية النبيلة لتفعيل الوسائل البديلة (الصلح أو التحكيم) على ارض الواقع لتسوية المنازعات وتحقيق العدالة الناجزة ، ومن ذلك على سبيل المثال الاتي:

1ـ نشر ثقافة التحكيم والوسائل البديلة الأخرى كآليات حقيقية مفضلة لتسوية المنازعات لما لها من خصاص ومميزات  لإيتاء كل ذي حق حقه في أقل مدة زمنية ممكنة وبأيسر التكاليف.

2ـ الترويج للتحكيم والوسائل البديلة لتسوية المنازعات على المستوى المحلي كخطوة اساسية أولى.

3ـ تسهيل تبادل المعرفة فيما يتعلق بمجال التحكيم والوسائل البديلة لتسوية المنازعات من خلال تنظيم الدورات وورش العمل والندوات والاعلانات الترويجية لها.

4ـ دعم تطوير التعليم القانوني لتعزيز مهارات طلاب القانون في مجال التحكيم والوسائل البديلة لتسوية المنازعات.

5ـ تشجيع وتنمية التحكيم التجاري المحلي والدولي.

6ـ وضع معايير وضوابط لحصر تسوية النزاع بطريق التحكيم او بأي من الوسائل البديلة ومثاله:

أ ـ المنازعات في المسائل المدنية إذا كان المدعى به لا يتجاوز عشرة ملايين ريال، والمنازعات في المسائل التجارية اذا كان المدعى به لا يتجاوز عشرين مليون ريال.

ب ـ المنازعات في المسائل المتعلقة بالعين المؤجرة بما في ذلك دعاوى الإخلاء.

ج ـ أي منازعات أخرى يتفق الأطراف على تسويتها بطريق التحكيم أو أي من الوسائل البديلة الأخرى.

والله من وراء القصد هو حسبنا ونعم الوكيل،،،

Loading