الأصل والاستثناء في فض منازعات العمل
بقلم المحامية/ نسمة عبد الحق النجار
في ظل وجود المشاريع والاستثمارات الخاصة اي القطاع الخاص وبالتالي عائد ربحي كبير لأرباب الأعمال، الأمر الذي يقود افتراضا الى التسليم بوجود عمال كنجوم خلف الكواليس وبالتالي وجود علاقة عمالية فيما بينهم وبين أرباب أعمالهم، وتتميز هده العلاقة أن العامل باعتباره الطرف الضعيف يعمل تحت إشراف وتوجيه وتبعية رب العمل باعتباره الطرف القوي في العلاقة العمالية.
والعلاقة العمالية ليست كغيرها من العلاقات القانونية، بل إنها تتميز بحساسيتها كونها تنظم وتمس أكبر شريحة في المجتمع وهم العمال وبالتالي تداعياتها تنعكس سلباً وايجاباً على الاقتصاد، وكما هو مفترض ان رقي اي دولة وازدهارها مرهون بمدى اقتصادها، والقطاع الخاص له بصمته على الاقتصاد الوطني بل وفي ظل الظروف الحالية فأنه يلعب دور لا يستهان به في الحياة الاجتماعية وتوفير الخدمات لأفراد المجتمع والتي عجزت الدولة عن توفيرها نتيجة ظروف عصفت بها واصابتها بشلل نصفي ان لم يكن شبه كلي!
ولكون الأمر كما سبق توضيحه، فقد نظم المشرع العمالي كيفية فض النزاع العمالي حال نشوبه وحفاه بضمانات جدية ودقيقة واجبة الاتباع وبالتالي تعلقها بالنظام العام باعتبارها حد أدنى لا يحق لأحد الاتفاق على مخالفتها او النزول عنها.
تعرف المادة (128) من قانون العمل المقصود بالمنازعات العمالية بما نصه: (يقصد بمنازعات العمل الخلافات التي تنشأ بين أصحاب الأعمال والعمال حول ما ينجم من خلافات عن تطبيق أحكام هذا القانون ولوائحه وسائر تشريعات العمل الأخرى وعقود العمل الفردية والجماعية).
ولم يكتف المشرع بإيضاح المقصود بمنازعات العمل فحسب موقناً أنه إذا ما اكتفى بذلك دون إيجاد طرق لمعالجتها لأصبح تشريعه للقانون عقيم وعبث ولا حكمة منه تُرجى أو ثمرة تُحصد.
ولأن لكل أصل استثناء وهو حال فض منازعات العمل والذي هو محل حديثنا، فإنه سيتم الحديث أولاً عن الأصل ثم الاستثناء كون ذلك هو الأصل المفترض.
أولاً: الأصل في فض منازعات العمل
يجب في حال نشوب أي نزاع بين طرفي علاقة العمل إتباع تدرج حدده القانون لفظه، وهذا التدرج قد أوضحته المواد التالية من قانون العمل:
تنص المادة (129) على: (1- على الطرفين المتنازعين أو ممثلهما عقد جلسة مشتركة لتسوية النزاع ودياً عن طريق المفاوضة خلال فترة أقصاها شهر وإثبات ذلك في محاضر موقعة بين الطرفين تكون لها صفة السرية،2 – إذا تعذرت التسوية الودية بين الطرفين المتنازعين يحال موضوع النزاع إلى الوزارة أو مكتبها المختص وعليها استدعاء أطراف النزاع لغرض حل النزاع خلال فترة لا تتجاوز أسبوعين من تاريخ الإحالة….).
وتنص المادة (130) على :(عندما لا تسفر الوساطة إلى حلول نهائية لموضوع النزاع يحق لأحد الطرفين رفعه إلى لجنة التحكيم – المحكمة العمالية- المختصة خلال مدة أقصاها أسبوعان من تاريخ محضر فشل الوساطة).
وبالرجوع إلى الحكم الدستوري التاريخي الذي أحل المحكمة العمالية محل لجان التحكيم بعد أن ألغاها؛ نجد أنه لم يسلب الوزارة أو مكتبها المختص الاختصاص الابتدائي في نظر النزاع العمالي بل أبقى المواد المقررة لذلك دون أن يتعرض لها بأي تعديل ما يعني انعقاد الولاية لها ابتداء ولا يحق للمحكمة العمالية النظر في النزاع العمالي ابتداء، وبالتالي لا ينعقد لها الولاية في النظر إلا بموجب إحالة مكتب العمل لها يوضح بها تعذر التسوية الودية.
نعم يجب في أي نزاع عمالي سلوك تدرج لنظره عله يجد معالجة قبل وصوله الى المحكمة، فيتم ابتداءً جلوس طرفي النزاع بشكل سري وفي حال تعذر ذلك يأتي دور مكتب العمل، وفي حال تعذر التسوية الودية يُحال الموضوع إلى المحكمة العمالية لتفصل فيه وفق القانون.
وهذا التدرج الذي أوضحه المشرع العمالي والذي جاء بصيغة الوجوب اعتبره المشرع متعلقاً بالنظام العام وهو ما يظهر جلياً من نص المادة (156) من قانون العمل والتي أوضحت بأنه مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد في أي قانون آخر يعاقب بغرامة مالية كل من تغيب من طرفي النزاع بدون سبب مقبول عن حضور جلستي الوساطة الثانية والثالثة التي تدعو إليها الوزارة أو مكتبها المختص وكذا جلستا اللجان التحكيمية- المحكمة العمالية- أو شعب قضايا العمل ، وفي حال تخلفه عن حضور الجلسة الثالثة تزيد الغرامة عن كل جلسة تخلف عنها) ، وكذا نصت المادة (6) من القانون ذاته على:( تمثل الأحكام الواردة في هذا القانون الحد الأدنى لحقوق العمال…) ما يعني تعلقها بالنظام العام ولا يحق النزول عن مواد قانون العمل.
ومع ذلك يحكي الواقع خروجاً صارخاً للأصل الموضح آنفاً في حل منازعات العمل؛ فالمحكمة العمالية تنظر النزاعات العمالية ابتداءً ودون إحالة من مكتب العمل، وبالمقابل ينظر مكتب العمل ما تصله من منازعات ابتداءً وفق القانون ما يعني وجود جهتين معاً لنظر النزاع العمالي ابتداء بالمخالفة لصريح نصوص القانون ما يؤدي إلى تمرد الواقع على القانون.
ثانياً: الاستثناء
لا يتم سلوك التدرج السابق في حالتين أوضحهما القانون، وهاتان الحالتان يعدان بمنزلة طعن أمام المحكمة العمالية، حيث أن رب العمل يصدر قراره متمسكاً بموافقته للقانون الا ان العامل يرى أن القرار متعسفاً ومجحفاً في حقه ويتجه لرفع تظلم أمام المحكمة العمالية، وهاتان الحالتان هما كالتالي:
1- حالة التظلم من نتيجة التحقيق، حيث تنص المادة (97/2) من قانون العمل على:( للعامل أن يتظلم من نتيجة التحقيق أو ما ترتب عنه إلى لجنة التحكيم- المحكمة العمالية- المختصة خلال فترة لا تزيد على شهر من تاريخ إبلاغه بنتائج التحقيق).
2- حالة التظلم من التخفيض والاستغناء ، حيث تنص المادة (102) من قانون العمل على: (يحق للعمال الذين شملهم التخفيض أو الاستغناء التظلم أمام لجنة التحكيم- المحكمة العمالية- المختصة اذا تبين لهم أن إجراء صاحب العمل كان مجحفاً ويهدف إلى إحلال عمال آخرين بدلاً عنهم).
ثالثاً: التوصيات
1- نوصي المشرع بإحلال مصطلح المحكمة العمالية بدلاً عن لجان التحكيم في كافة مواد القانون ولا يقتصر الأمر على المواد التي حكم بعدم دستوريتها، وذلك لتتوحد مصطلحات القانون.
2- نوصي المشرع بإعادة النظر في مجمل قانون العمل ، حيث تم الغاء مواد تحمل فقرات لا تتعلق باختصاص لجان التحكيم وكان وجودها سليماً، وبالمقابل وجود مواد لها علاقة بلجان التحكيم كجهة تحكيم ولا يمكن انطباقها على المحكمة العمالية تم الإبقاء عليها وكان الأجدر إلغاؤها لتنسجم مع الحكمة من الحكم الدستوري الذي أقر المحكمة العمالية وألغى لجان التحكيم.
3- نوصي القضاة لإعمال الأصل في فض منازعات العمل أي سلوك التدرج الموضح آنفاً عدا حالتي الاستثناء، وذلك لتوحيد مسار نظر النزاعات العمالية بمختلقها دون ترك الأمر لفوضى الواقع، ولا يجب نظر أي نزاع عمالي امام المحكمة الا بناءً على إحالة من مكتب العمل ، فالواقع يحكي وجود عدد كبير لا يستهان به من منازعات العمل التي تم حلها ودياً في مكتب العمل وبالتالي التخفيف عن كاهل القضاء خصوصاً كون قضايا العمل تأخذ طابع العجلة ولكونها بأعداد كبيرة وعلى استمرار ما استمرت المشاريع الخاصة، ونظرها امام القضاء ابتداءً يتعارض مع الحكمة من تشريع المشرع لمبدأ التدرج في فض منازعات العمل وكذا تثقل من كاهله، ولكون مكتب العمل يحكي عن إحصائية لا يستهان بها في معالجة النزاعات العمالية ودياً ودون حاجة للجوء إلى لقضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر في العدد (197) الصادر بتاريخ 30 ابريل 2022م.