كتابات

التجسس والتخابر الأجنبي ثقافة أمريكية للصراع والسيطرة

المحامي: عبد الحميد الهجري
سعى الإنسان منذ وجوده على وجه الأرض إلى ترسخ قدمه عليها، وبسط یديه عليها، الأمر الذي ولد التنافس بین الأفراد والمجتمعات والدول، وأدى إلى نشوب الحروب واشتدادها.

ومع توسع المجتمعات وازدياد عدد الدول وإنشاء المدن الكبيرة وزيادة متطلبات حياة الإنسان، ظهرت صنوف جديدة من الصراع لها غايات وأهداف معينة، وتستخدم فيها وسائل لتحقيق تلك الأهداف، وفي مقدمة تلك الوسائل المستخدمة ظهر التجسس، فالتجسس قد رافق نشوء المجتمعات القديمة وتطور بتطورها ثم غدا له في العصر الحاضر خطورة بالغة.

أصبح تبادل العلاقات بین أعضاء الجماعة الدولية من أهم مظاهر الحیاة الدولیة، فالدول كالأفراد لا تستطيع العيش في عزلة عن غیرها من الدول، فروابط التعامل والتعـاون والتكـامل تربط الدول وشعوبهـا بعضهـا ببعض، وتفرض علیهم ضـرورة الاتصـال، الأمـر الذي اقتضـى تبادل المبعوثین الدبلوماسیین بین الدول لإدارة الشؤون الخارجیة.

وقد تطلب قیـام المبعـوث الدبلوماسي بأداء مهامـه على الوجه الأكمل، أن یتحرر من بعض القیود التـي یمكن أن تؤثر علیه أو تثقل حركته أو تعرقل وسائل عمله، أو تمكن سلطـات الدولـة المـوفد إلیهـا مـن التدخل أو التـأثیر علـى عمله فـي تمثیل بلاده، فهـو یحتـاج إلـى قسط وافر من الاستقلال والحریة في تصرفاته. لذلك استقـر العـرف الدولـي، منذ وقت بعید على التسلیم للمبعوث الدبلوماسي بمجموعة من الحصـانات والامتیـازات الدبلوماسیة التي تكفـل لـه وضعـاً متمیزاً وتمكنه مـن النهـوض بأعبـاء وظیفته علـى الوجه الأمثل، ومـع استقرار المجتمعات البشریة ظهرت الحـاجة إلى تقنین القواعد الخـاصة بهذه الحصـانات والامتیـازات، وقد جـرت عدة محاولات لتقنین الأعراف الدبلوماسیة، ولعل من أهم هذه المحـاولات هو الاتفاق الذي حصل في مؤتمر فینا عام 1815 ،فقد وقعت الدول المشـاركة فـي هذا المؤتمر على معاهدة تبین اختصاصـات السفـراء والامتیـازات والحصـانات التي یتمتعون بها.

تلت ذلك عدة محاولات في هذا الشأن خلال القرن العشرین على ید عصبة الأُمم عـام 1922 لـم یكتـب لهـا النجـاح، وقـد تزامـن هـذا الفشـل الـدولي فـي تدویـن الأعـراف الدبلوماسیـة مـع نجـاح إقلیمـي تمثل بنجـاح الـدول الأمریكیة اللاتینیـة بتبني اتفـاقیة هافانا عـام 1928 حول الموظفین الدبلوماسیین.

غیـر أن الحـاجة إلى تقنین القواعد العرفیة المرعیة في التعـامل الدولـي ظهـرت بشكل أكثر إلحـاحـاً عقب الحرب العـالمیة الثـانیة، الأمر الذي جعل الجمعیة العامة للأُمم المتحدة تدعو لعقد مؤتمر دولي لدراسة موضوع تدوین أعراف القانون الدبلوماسي، حیث أقـر هذا المؤتمر اتفـاقیة فینا للعلاقات الدبلوماسیة في 18 نیسان عام 1961م.

كمـا أن مرحلـة مـا بعـد الحـرب العـالمیة الثانیـة كانت قد شهدت تغیرات أساسیة في مجال العلاقـات الدولیـة فـي مقدمتهـا الحـرب البـاردة بین المعسكرین الشرقي والغربي، وازدیاد عدد الدول حدیثة الاستقلال، وازدیاد عدد المبعوثین الدبلوماسیین، وظهور المنظمات الدولیة الجدیدة، وتحول الدبلوماسیة التقلیدیة إلى الدبلوماسیة الحدیثة، بالإضافة إلى الثورات العلمیة والتكنولوجیة والاجتمـاعیة والسیـاسیة والاقتصـادیة.

كـل تلك العـوامل وغیـرها أدت مجتمعة إلـى انحراف الدبلومـاسیة بشـكل عـام والحصانات والامتیازات الدبلوماسیة بشكل خاص عن مسارها الحقیقي الذي وضـعت من أجله، وذلك بانتشار ظاهرة إساءة استخدام الحصانات والامتیازات الدبلومـاسیة الممنـوحة لهـم، و استعمالها كرخصـة لخـرق قوانیـن الدولـة المضیفـة وأنظمتهـا وارتكـاب الجـرائم، ولعل أهم مظاهر إساءة استعمال تلك الحصانات والامتیازات وأخطرها هو التجسس الذي یشكل تهدیداً وخطراً على أمن الدولة المضیفة وسیادتها.

إن مسـألة الخلط بین الدبلومـاسیة والتجسس لیس بالأمر الجدید، فقد مـارسته الدول منذ زمن بعـید، بـل منـذ أن ارتبطت مـع بعضهـا بعلاقات دولیة، فالجاسوسیة كانت قد ظهرت في صور الدبلـومـاسیة القـدیمـة وخـاصـة فـي (العصـر البیـزنطـي) حیـث كـان المبعـوثون الدبلومـاسیون یلجأون إلى التحـایل والخدیعـة للحصول على المعلومات الأمنیة والعسكریة.

وفي العصور الـوسطـى كـانت السفارات فـي أوروبـا عبـارة عـن أوكـار للتجسـس، بالإضافة إلى إنهـا كـانت تتدخـل في الشـؤون الداخلیـة للـدولة المعتمـدة لدیهـا، وكـان ینظـر إلیهـا بعین الشك والریبة، وخـاصة جمهـوریة البندقیة التـي أقـامت سفـارات وهیئات دبلوماسیة مع البلدان التي ترتبط معها بمصـالح سیـاسیة واقتصادیة، فكـانت تتسلـم مـا یمكـن تسمیتـه بتقـاریر المخـابرات من السفراء و العملاء . أمـا بعـد معـاهدة وستفـالیـا 1684 ومـا رافقهـا مـن نمـو فـي مظـاهر التسلـح وحـاجة الـدول الأوروبیة إلـى المعلومـات أكثـر مـن أي وقـت مضـى، فقد اتجهت إلى الحصول على المعلومات النشـطة والدائمـة بواسطة السفارات، فكان الدبلوماسیون آنذاك یقومون برشوة موظفي البلاطات الملكیة للحصول على المعلومات والوثائق الرسمیة.

بینمـا فـي المرحلة التي أعقبت مؤتمر فینا 1815 نجد إن الدور التجسسي للسفراء الذي كان مـاثلاً للعیـان فـي القرن الثـامن عشر قد تلاشى وبقیت المهمة الرئیسیة للسفراء تزوید حكوماتهم بالمعلومات عن حالة الدولة المعتمدین لدیها.

ومـع بـدایة الحـرب العـالمیة الثـانیة لم یعـد التجسـس الدبلوماسي قاصـراً فقط على الأسرار العسكـریـة والدبلـومـاسیة، بل صـار عـاملاً مـن أهـم العـوامل الحیویة فـي خدمـة الإستراتیجیة القومیة، وذلك بالكشف عن المعلومات الصناعیة والعلمیة التي یحتمل أن یعتمد علیها العدو في تقدیر إمكانیاته.

ولكـن أكـثر المراحـل التـي ارتبطت بهـا ظـاهرة التجسـس الدبلومـاسي، هي مرحلة الحرب البـاردة والتي قسمت دول العالم إلى معسكرین شرقي وغربي، وكان من شأن التفتت الذي خلقته الحـرب، أن جعـل كـلاً مـن المعسكـرین ینظـر إلـى سفـراء المعسكـر الآخر على أنهم جواسیس بالدرجة الأولى.

وفي الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة كان للانكماش الاقتصادي الذي حصـل للمـوارد الاقتصـادیة السوفیتیة أثـرٌ فـي نهـایة الاتحـاد السوفیتـي السابق وتفرد الولایات المتحدة على الصعید العالمي وظهور ما یسمى بالنظام العالمي الجدید ذي القطبیة الأحادیة، وفي ظـل هـذا النظـام نلاحـظ عـودة ظـاهرة التجسـس العسكري والدبلومـاسي مـن جـدید وبشكـل متزاید منذ أن أصبحت الولایـات المتحـدة القـوة العظمـى الـوحیدة فـي العـالم.
حيث أصبحـت أكثـر تلهفـاً واندفاعـاً للتجسـس علـى كـل دول العـالم للحفـاظ علـى تفردهـا بقیـادة النظـام العالمي، ولعل زیادة حالات التجـسس وتوتـر العلاقـات الدبلومـاسیة بین الولایات المتحدة الأمریكیة والكثیر من دول العالم تؤكدان ذلك ، خصوصـاً بعـد أحداث11 سبتمبر 2001 وظهور ما تسمیه الولایـات المتحـدة الأمریكیة (الحرب على الإرهاب.

وبمـا إن المـؤیدات التـي تلزم الدبلوماسیین بالتـورع عـن اقتراف مثـل هـذه الجـرائم لا نجـدها في القوانین الجزائیة الداخلیة، ولا تبحث على صعیـد القضـاء الداخلي، ولكن تقرها الأعراف والقوانین الدولیة، ویجب أن تبحث على الصعید السیاسي وأن تعـرض فـي نطـاق المسؤولیة الدولیة.

فالقوانين الدولية تعاقب على جرائم التجسس والتخابر عند ثبوت واقعة التجسس، مع أن أعمال التجسس لا تعتبر في حد ذاتها مخالفة لقواعد القانون الدولي كما يرى بعض فقهاء القانون الدولي إلا أنه إذا جاء ارتكاب أعمال التجسس من قبل المتمتعین بالحصانات والامتیازات الدبلوماسیة – برغم عدم خضوعهم للقوانین الداخلیة للدول المعتمدین لدیها والتي تجرم تلك الأعمال- فإن ارتكابهم لمثل تلك الأفعال یعد انتهاكاً لقواعد القانون الدولي من جهة خروجها عن نطاق الوظیفة الدبلوماسیة التي یقرها القانون الدبلوماسي.

لذلك تلجأ الدول عند ثبوت ارتكاب واقعة التجسس من قبل المتمتعین بالحصانات والامتیازات الدبلوماسیة إلى الوسائل التي یقرها القانون الدولي لمواجهة تلك المسألة، وبذلك فإن لثبوت واقعة التجسس الدبلوماسي آثاراً قانونیة تفرض قيام مسئولية المنظمات الدولية ووجوب تحريكها.

Loading