كتابات

حجية الأحكام القديمة

تعلييق على حكم

أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين*

تختلف الأحكام القضائية القديمة عن الأحكام الحديثة من حيث بياناتها وصياغتها والأوراق التي تكتب عليها وكذا من حيث مضمونها مثل ديباجة الحكم وتدوين الدعوى والرد عليها وتسبيب الحكم ومنطوقه، ولذلك عندما يتم إبراز الأحكام القضائية القديمة للإحتجاج بها فبي الوقت الحاضر ينكر غالبية الخصوم هذه الأحكام ويصرحون بأنها ليست أحكاماً قضائية بالمفهوم السائد في الوقت الحاضر لأنها لم تتضمن البيانات التي اشترطها القانون في العصر الحاضر ، فعلى سبيل المثال عندما أبرز احد الخصوم عام 2006م حكماً قديماً صدر عام 1960م في صنعاء قال خصمه أن هذا الحكم مجرد قصاصة ورق لأنه لم يتضمن البيانات التي اشترطها القانون النافذ في الحكم القضائي المعاصر حسبما ورد في الحكم محل تعليقنا، الذي قضى بأن حجية الأحكام القضائية ثابتة دون اعتبار للزمان الذي صدرت فيه طالما أنه من الثابت أنها كانت أحكاماً قضائية في الوقت الذي صدرت فيه ودون اعتبار لتوفر البيانات التي اشترطها القانون النافذ في الوقت الحاضر في الأحكام القضائية التي تصدر في الوقت الحاضر، والحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة المدنية في جلستها المنعقدة بتاريخ 19/12/2006م في الطعن المدني رقم (26711) وخلاصة أسباب هذا الحكم أنه( بعد الاطلاع على أوراق هذه القضية بما في ذلك الاطلاع على قرار التنفيذ بتاريخ 30/4/2003م وعلى الحكم المؤرخ في 19 صفر 1381ه 1960م سند التنفيذ وعلى الطعن بالنقض والرد عليه فقد وجدت الدائرة أن ما اثاره الطاعن في أسباب طعنه من انعدام السند التنفيذي وهو الحكم المؤرخ في 19 صفر 1381ه وبطلان ما تعقبه وان الطاعن بالنقض لم يحضر أمام القاضي الذي فصل في النزاع حسبما تحكيه أوراق القضية، حيث وجدت الدائرة أن ما اثاره الطاعن ليس في محله لأن المحكمة الابتدائية وهي محكمة التنفيذ قد أسست قرار التنفيذ على أسباب سائغة ، حيث من الثابت أنها نظرت في طلب التنفيذ المتضمن طلب تنفيذ الحكم المؤرخ في 19صفر1381ه الصادر من حاكم المقام آنذاك القاضي….. كما أن محكمة أول درجة حققت في الدفع الذي تقدم به المنفذ ضده والذي ذكر فيه ان الحكم الصادر في عام 1381ه منعدم لأنه عبارة عن قصاصة مجهولة المصدر ،وقد قضت محكمة أول درجة بعدم قبول ذلك الدفع لعدم صحته، لأن الحكم المطلوب تنفيذه صادر من القاضي العلامة…. حاكم المقام المعروف لدينا خطه وتوقيعه من خلال الأحكام الصادرة عنه الموجودة لدى المحكمة، فحجية الأحكام ثابتة مستقرة ولا تسقط بمرور السنين فقد صار ذلك الحكم حائزاً لقوة الأمر المقضي به واصبح عنواناً للحقيقة فهو قرينة قاطعة لا تقبل اثبات العكس بأي حال من الأحوال عملاً بالمادة (155) اثبات التي نصت على ان القرينة الشرعية تغني في اثبات الواقعة عن أي دليل آخر، وحيث أن محكمة الاستئناف قد جعلت أسباب حكمها جزءا لا يتجزأ من أسباب حكم المحكمة الابتدائية والتي جاء في أسباب حكمها أن ما اثاره المستأنف أي المنفذ ضده سبق وان اثاره امام محكمة اول درجة التي ناقشت ذلك تفصيلاً في أسباب حكمها التي تعد أسباباً للحكم الاستئنافي وقد ورد في الحكم الاستئنافي انه لما كانت المادة (58) مرافعات اعتبرت الأحكام الصادرة بالدفع أو الدعوى بالانعدام غير قابلة للطعن بأي طريق أياً كانت المحكمة التي أصدرتها ، وحيث أن ما استند إليه الحكم المطعون فيه في قضائه موافق لأحكام الشرع والقانون مما يجعل الطعن فيه مرفوضاً) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية:

الوجه الأول: صيغة الأحكام القديمة:
من خلال المطالعة والمراجعة للأحكام القضائية القديمة يجد المطالع انها تتميز بالإختصار والإيجاز حيث تقتصر على اثبات أسماء المتداعين ومحل النزاع ومنطوق الحكم وتاريخه ، فبعض الأحكام القديمة تكون صفحة كما هو الحال في الحكم الذي أشار إليه الحكم محل تعليقنا وبعضها تكون صفحات قليلة فلا تتضمن هذه الأحكام ديباجة الحكم أو اثبات إجراءات التقاضي التي تمت أمام المحكمة حيث تقتصر غالبية الأحكام القديمة على ملخص الشجار، ولذلك نجد ان حكماً صدر عن الإمام الشوكاني عام1235ه بشأن ثبوت جرح شاهد حيث قضى الشوكاني بأنه ( ثبت لدينا خساسة فلان ابن فلان فلا تقبل شهادته كما ثبتت خصومته لفلان ابن فلان فلا تقبل شهادته عليه) وقد جاء هذا الحكم في اعلى مذكرة طلب فيها الطالب اثبات حال الشخص المذكور الذي كان شاهداً على الطالب، حيث كان الشاهد المذكور بحكم الشوكاني قد تمت محاكمته لدى الشوكاني في قضية أخرى كان خصماً للطالب، فبث لدى الشوكاني أن ذلك الشاهد المجروحة شهادته توسل امام الشوكاني بوسائل خسيسة حتى قال عنه الشوكاني انه خسيس لا تقبل شهادته أي انه لا يتورع في قول شيء على خصومه ، كما جاء في حكم القاضي هاشم المرتضى حاكم وصاب العالي عام 1951م ، انه ( بعد التداعي أمامنا وثبوت صحة الدعوى ان الموضع محل الخلاف ملك خالص للمدعي لثبوت إرثه لنصف الموضع من والدته وشرائه للنصف الآخر من خاله ولذلك لزم على المدعى عليه تسليم الموضع المحكوم به للمدعي وبهذا حكمت وجزمت والله خير الحاكمين) والخلاصة أن الأحكام القضائية القديمة كانت تحرر بصيغة مختصرة موجزة ولم تكن تحرر على الصيغة المألوفة في الأحكام القضائية في الوقت المعاصر ، ومع إيجاز الأحكام القضائية القديمة إلا أن صيغتها تظهر انها أحكام وليست أوامر على عرائض او إخبارات كما كانت ترفق بالأحكام العرائض والمراجعات التي يقدمها الخصوم والتي كان يتم الحكم بموجبها ، ولذلك نجد أن الحكم محل تعليقنا قد أشار إلى أن الحكم الصادر عام 1281ه من حاكم المقام هو عبارة عن قصاصة أي ان الحكم قد ورد في نصف صفحة كما أنه لم يتضمن الديباجة ولم يتضمن إجراءات التقاضي التي تمت امام القاضي أو ولاية القاضي حسبما ذكر الطاعن بالنقض، وقد رفضت المحكمة العليا الطعن بالنقض لأن المحكمة الابتدائية قد تأكدت من خط القاضي الذي اصدر الحكم عام 1281ه كما أنه كان حاكم مقام الإمام أحمد حميد الدين رحمه الله الذي كان يحيل إليه شكاوى المواطنين اذا تضمنت نزاعات تحتاج الفصل فيها.

الوجه الثاني: كيفية التمييز بين المحررات القديمة لمعرفة الحكم القضائي:
كان القضاة في الماضي القريب حكاماً حيث كان يطلق على القاضي مسمى (الحاكم) حيث ان القاضي آنذاك لم يكن عمله يقتصر على الفصل في الخصومات وإنما كان يقوم بالفتوى وكان يؤم المصلين ويلقي الدروس والمواعظ الدينية وإعلان الأهلة وإدارة أموال القاصرين والولاية على من لا ولاية له، ولذلك كانت السلطة الولائية للقاضي او الحاكم واسعة ،ومن هذا المنطلق فإن القاضي كان يحرر ويصدر محررات كثيرة تشابه الأحكام القضائية ، ولكن الأمانة العلمية تقتضي القول بأن صيغة المحرر الذي كان يحرره القاضي تظهر بجلاء ان المحرر حكم أم غيره ،لأن القضاة في الماضي القريب كانوا مجتهدين فلم يكن يعين قاضياً إلا من حاز مرتبة الاجتهاد حسبما هو مقرر في المذهب الزيدي وغيره، ولذلك كان القضاة يعتنوا بصياغة الأحكام والعبارات التي تدون فيها ، فمن خلال صيغ الأحكام القديمة يجد المطالع إلى انها تشير إلى وجود خصومة أو خلاف تم رفعه إلى القاضي وفي الوقت ذاته تشير إلى التداعي والمرافعة أمام القاضي بالإضافة إلى ترجيح كفة المحكوم له كما تهتم ببيان المحكوم له والمحكوم عليه والشيء المحكوم به، ولذلك يظهر ان كافة اركان وشروط الحكم القضائي قد توفرت في تلك الأحكام وان كانت موجزة، وصفوة القول ان المحرر القديم اذا أشار إلى رفع الخلاف إلى القاضي والتداعي امامه وثبوت احقية المحكوم له ولفظ الحكم والجزم فإن المحرر يكون حكماً يتميز عن المحررات والاخبارات والأوامر الوقتية وغيرها التي كان يصدرها القاضي القديم.

الوجه الثالث: كيفية التعرف على خط القاضي القديم وولايته:
القاضي المعين كما ذكرنا عالم مجتهد قام بتحرير آلاف الوثائق والمستندات والأحكام والأوامر وهذه المحررات تتعلق بها حقوق وواجبات تتعلق بالأشخاص الموجودين في نطاق المنطقة التي عمل بها القاضي ولذلك فهؤلاء الأشخاص وخلفهم يحتفظوا بالمحررات التي أصدرها القضاة المتعاقبون لمدد تصل إلى اربعمائة سنة، كما ان هؤلاء يبرزون هذه المحررات امام المحكمة المختصة مكانياً في اثناء النزاعات التي تثور بينهم على مر السنين ولذلك فمن السهل التعرف على خطوط وتوقيعات القضاة على الأحكام القديمة كما تسهل معرفة صيغة الحكم لدى هذا القاضي وذاك من المتقدمين، وقد أشار الحكم محل تعليقنا إلى أنه قد تم التعرف على خط وتوقيع القاضي القديم على الحكم من مضاهاة الحكم بالأحكام والوثائق الأخرى الصادرة عن القاضي(حاكم المقام) من خلال الوثائق الموجودة بالمحكمة.

الوجه الرابع: حجية الأحكام القديمة:
قرر الحكم محل تعليقنا ان الأحكام القديمة لها حجيتها في اثبات الحقوق وانها حائزة لقوة الأمر المقضي به وأنها لا تقبل اثبات العكس بأي حال من الأحوال حسبما ورد في الحكم محل تعليقنا، وهذا التعليل صحيح لأن الأحكام القديمة صدرت صحيحة في ذلك الوقت الذي صدرت فيه وصدرت بموجب الإجراءات التي كانت متبعة في حينه ولو كانت غير مطابقة لما هو متبع ي العصر الحاضر ووفقاً للقوانين والنظم النافذة في هذا الوقت، فمن غير المقبول تطبيق القوانين والنظم النافذة في الوقت الحاضر على الأحكام التي صدرت قبل صدور هذه القوانين بمدة طويلة.

*الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء.

Loading