كتابات

القابلية للتحكيم وفكرة النظام العام

المحامي الدكتور/ هشام قائد عبدالسلام الشميري
تكاد تتفق التشريعات الحديثة على عدم إجازة التحكيم في المنازعات التي لا يجوز فيها الصلح، وإجازة التحكيم في المنازعات التي يجوز فيها الصلح؛ وأساس ذلك أن المسائل التي يجوز فيها الصلح تتعلق بالصالح الخاص بالأفراد، ولا تتعلق بالنظام العام للمجتمع أو مصالحه العليا. فالتشريعات تربط مسألة القابلية للتحكيم بفكرة النظام العام، فكل ما يتعلق بالمصلحة العامة أو النظام العام لا يجوز فيه الصلح أو التحكيم أياً كان نوع العلاقة، وكل ما يتعلق بالحقوق الخاصة أو المصلحة الخاصة يجوز فيه الصلح أو التحكيم. وترتب التشريعات على إبرام اتفاق التحكيم في نزاع غير قابل للتحكيم بطلان الاتفاق بطلاناً مطلقاً متعلقاً بالنظام العام، ومن ثم بطلان حكم التحكيم، فإذا تبين للمحكم أن النزاع محل التحكيم غير قابل للتحكيم يتعين عليه الحكم بعدم اختصاصه مالم فإن حكمه يكون باطلاً، وإذا فصل المحكم في مسائل قابلة للتحكيم ومسائل آخرى غير قابلة للتحكيم فإن البطلان يقتصر على الأجزاء التي لاتقبل التحكيم ما لم يكن الحكم برمته مرتبطاً ارتباطاً لا يقبل التجزئة فهنا يبطل الحكم برمته.

وفكرة النظام العام فكرة نسبية تختلف من نظام إلى آخر، كما تختلف في المجتمع الواحد من فترة زمنية إلى فترة زمنية آخرى، ومن مكان إلى مكان آخر داخل المجتمع، ففكرة النظام العام تتطور بتطور المجتمع ذاته، حيث أن بعض المسائل قد تعد في وقت من النظام العام، ولكنها لا تعد كذلك في وقت آخر، وبالتالي فمن الصعب وضع تعريف محدد لفكرة النظام العام أو ضابط دقيق لفكرة النظام العام.

وقد تباينت تعريفات الفقه للنظام العام، فقد عرفه البعض بأنه كل ما يرتبط بالنظام الأعلى للمجتمع ويمس نسيجه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ويخل بقيمه العقائدية والأخلاقية، بينما عرفه البعض بأنه مجموعة القواعد القانونية التي يقصد بها تحقيق مصلحة عامة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد، في حين عرفه البعض بأنه مجموعة الأصول والقيم العليا التي تشكل كيان الدولة المعنوي وترسم صور الحياة الإنسانية فيها وحركتها نحو تحقيق أهدافها سواء كانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم خلقية. ويلاحظ أن هذه التعريفات في مجملها تكاد تتفق على فكرة واحدة، وهي أن النظام العام يمثل مجموعة القواعد التي تمس النظام الأعلى للمجتمع، وتهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية.

كما اختلف الفقه في وضع معيار للنظام العام في مجال القابلية للتحكيم، فقد ذهب جانب من الفقه إلى ربط النظام العام بالقواعد القانونية الآمرة، وتبعاّ لذلك ربط عدم القابلية للتحكيم لمخالفة النظام العام بوجود قواعد قانونية آمرة، بحيث يكون النزاع الذي يثير تطبيق قاعدة أو أكثر من القواعد القانونية الآمرة غير قابل للتحكيم؛ حجتهم أن وجود هذه القواعد الآمرة يعتبر مظهراً من مظاهر وجود النظام العام، باعتبار المسائل التي تنظمها قواعد آمرة تمس الكيان الأساسي للمجتمع بأسره والسياسة العامة للدولـة، ويكون المقصود منها تحقيق مصلحـة عامة، ولا يجوز التنازل عنها أو مخالفتها. وهذا الرأي محل نقد؛ لأن من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة غير مقبولة، فحواها عدم قابلية المنازعات للتحكيم في أغلب الحالات، كون أن القواعد الآمرة لم تعد مقصورة على فرع من فروع القانون، وإنما صارت منتشرة في كافة الفروع، حتى ما كان بعيداً عن متناولها، كما في القانون المدني والتجاري. وهذا الامر أدى إلى ظهور محاولات البعض من أنصار هذا الرأي الرامية إلى الحد من إطلاق الربط بين فكرة النظام العام في مجال التحكيم وبين القواعد الآمرة، فقد اشترط البعض منهم للقول بعدم جواز التحكيم أن يكون من شأن اتفاق التحكيم إحداث تعدٍ بالفعل على القواعد الآمرة المتعلقة بالنظام العام، بينما ذهب البعض منهم إلى أن عدم القابلية للتحكيم لا تقوم إلا عندما يكون سبب النزاع أو مفترضات نشوئه مخالفة للقواعد الآمرة، في حين ذهب آخر الى أن عدم القابلية للتحكيم لا تقوم إلا اذا كانت الخصومة تنصب أساساً على تطبيق قاعدة من القواعد المتعلقة بالنظام العام.

وإزاء عجز الآراء الفقهية السابقة عن تقديم تفسير مقنع للصلة بين عدم القابلية للتحكيم ووجود القواعد القانونية الآمره، ذهب أغلب الفقه إلى أن عدم قابلية النزاع للتحكيم لمخالفة النظام العام لا يعني أن تنظيم العلاقة محل النزاع بقواعد آمره يؤدي بذاته إلى عدم قابليتها للتحكيم، وإنما يعني أن النظام العام يقتضي بالضرورة الفصل في هذا النزاع عن طريق قضاء الدولة وحده؛ ويرجع ذلك إلى اختلاف فكرة النظام العام في شأن تنظيم العلاقة محل النزاع عن فكرة النظام العام في شأن القابلية للتحكيم، فالنظام العام في شأن تنظيم العلاقة محل النزاع يقتضي التزام أطراف العلاقة بالقواعد الآمرة التي يضعها المشرع بحيث يكون اتفاقهم على مخالفتها باطلاً ولا ينتج أثره، أما النظام العام في شأن القابلية للتحكيم فهو أمر زائد على تنظيم العلاقة محل النزاع يقتضي وجوب عرض الخلاف الناشئ عن هذه العلاقة على القضاء وحده دون التحكيم. كما أن هناك مسائل نظمها المشرع بقواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، ومع ذلك ليس هناك شك في جواز الالتجاء إلى التحكيم في المنازعات المتعلقة بها، كالفعل الضار والمسئولية المدنية الناشئة عنه.

وبدورنا نؤيد ما ذهب إليه الفقه الغالب من أن عدم قابلية النزاع للتحكيم لمخالفة النظام العام يعني أن النظام العام يقتضي بالضرورة الفصل في هذا النزاع عن طريق قضاء الدولة وحده، ولا يعني أن تنظيم العلاقة محل النزاع بقواعد آمره يؤدي بذاته إلى عدم قابليتها للتحكيم؛ وذلك لأن فكرة النظام العام في مجال القابلية للتحكيم تتعلق بمسألة إجرائية، بينما فكرة النظام العام في شأن تنظيم العلاقة محل النزاع تتعلق بمسألة موضوعية، واعتبارات كل منهما مختلفة.

وعلى ذلك فإن فكرة النظام العام تكون بالنظر إلى النزاع محل التحكيم، وليس إلى القاعدة القانونية التي تحكم العلاقة محل النزاع، بمعنى آخر تكون فكرة النظام العام بالنظر إلى الحق الذي تحميه القاعدة وليس بكون القاعدة آمرة، فإذا كان الحق الذي تحميه القاعدة حقاً خاصاً فإنه لا يتعلق بالنظام العام ويجوز التحكيم بشأنه، أما إذا كان الحق الذي تحميه القاعدة حقاً عاماً فإنه يتعلق بالنظام العام ولا يجوز التحكيم بشأنه، وتعتبر فكرة النظام العام والقابلية للتحكيم من مسائل القانون التي تخضع فيها السلطة التقديرية للقاضي لرقابة محكمة النقض.

ويرجع في تحديد تعلق المنازعة بالنظام العام أولاً إلى المشرع ذاته، ثم إلى القاضي مستهدياً في ذلك بمسلك المشرع ومستعيناً بجهود الفقه وتحليلاته، مع مراعاة ما تستلزمه الطبيعة الاستثنائية للتحكيم من تفسير فكرة النظام العام تفسيراً واسعاً. ويمكن تقسيم المنازعات المتعلقة بالنظام العام التي لا يجوز فيها التحكيم – وهذا التقسيم ليس نهائياً – على النحو الآتي:

1- المنازعات المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية البحتة:
يخرج عن مجال التحكيم مسائل الأحوال الشخصية البحتة، فلا يجوز التحكيم أو الصلح في مسائل الأحوال الشخصية البحتة، كالبنوة والزواج والطلاق والجنسية والولاية والوصاية والقوامة والحضانة وثبوت الوراثة وتحديد سن الولد وغيرها؛ وذلك لأن هذه المسائل تحكمها الشريعة الإسلامية بقواعد تتعلق بالنظام العام، فلا تخضع للتعامل أو التنازل، ولا يجوز فيها الصلح أو التحكيم. ويقصد بمسائل الأحوال الشخصية جملة الصفات التي تحدد مركز الشخص من أسرته ومن دولته ويرتب عليها القانون أثراً معيناً، فاصطلاح الحالة ينصرف إلى كل من الحالة السياسية التي تحدد مركز الشخص من دولته كالجنسية والموطن، وينصرف أيضاً إلى الحالة المدنية التي تحدد مركز الشخص من أسرته ويرتب عليها القانون أثراً معيناً في حياة الشخص الفردية أو العائلية. كما أن المشرع جعل الوقف والهبة والوصية والنفقات من مسائل الأحوال الشخصية، رغم أنها بحسب الأصل من الأمور المتعلقة بالمسائل المالية؛ ويرجع ذلك إلى اعتبارها من عقود التبرعات التي تقوم غالباً على فكرة التصدق المندوب إليه ديانة والتي نظمتها الشريعة الإسلامية.

ويقتصر عدم القابلية للتحكيم على مسائل الأحوال الشخصية البحتة، دون المسائل التي تتصل بالمصالح المالية- الآثار المالية التي تترتب على مسائل الأحوال الشخصية– فإنها تخضع للتعامل والتنازل، ويجوز فيها الصلح والتحكيم، كالتعويض عن فسخ الخطبة وتحديد مقدار النفقة وتقسيم التركة.

2- المنازعات المتعلقة بالمسائل الجنائية:
يخرج عن مجال التحكيم المسائل الجنائية، فلا يجوز الصلح أو التحكيم في المسائل الجنائية لا مع النيابة العامة ولا مع المجني عليه؛ ويرجع ذلك الى أن الدعوى الجنائية حق للمجتمع تباشرها النيابة العامة كطرف أصلي في الخصومة، ولا يجوز للنيابة أن تكون طرفاً في منازعة معروضة على التحكيم، كما أن المحكم لا يمتلك سلطة الإجبار التي تخوله إيقاع العقوبات م(43) تحكيم يمني. والجرائم التي يمتنع فيها التحكيم تشمل الأفعال التي يجرمها المشرع في القانون الجنائي أو في قانون آخر؛ وذلك لأن لفظ التجريم يشمل جميع العقوبات، سواءً وردت في القانون الجنائي أم في قانون آخر.

وعلى ذلك لا يجوز التحكيم في تحديد مسئولية الفاعل أو قيام الجريمة أو نسبتها إلى فاعلها أو تحديد العقوبة الواجبة على الجريمة أو تحديد مسئولية كل فاعل على انفراد في مواجهة المجني عليه في حالة تعدد المسئولين، فليس من اختصاص المحكم الحكم بجزاءات جنائية أو بقيام الجريمة أو عدم قيامها أو تحديد فاعلها أو الأشخاص المشتركين فيها أو تحديد العقوبة الجنائية المترتبة عليها.

ويقتصر عدم قابلية المسائل الجنائية للتحكيم على الدعوى الجنائية، دون الدعوى المدنية الناشئة عن الجريمة التي تعتبر حقاً للمجني عليه يكون له مطلق الحرية في التصرف فيها بالصلح أو التحكيم أو التنازل، ولا يؤثر الصلح أو التحكيم أو التنازل في الدعوى المدنية على الدعوى الجنائية ولا يمنع من تحريكها أو السير فيها. وعليه فإن الأضرار الناجمة عن الجريمة التي أصابت المجني عليه أو الغير يجوز أن تكون محلاً للتحكيم، فيجوز التحكيم في شأن تقدير التعويض المستحق للمجني عليه عن الأضرار الناجمة عن الجريمة التي أصابته، ويتعين على المحكم في هذه الحالة الالتزام بقاعدة وقف الدعوى المدنية إلى حين الفصل في الدعوى الجنائية.

ويستثنى من القاعدة العامة التي تقرر عدم قابلية الدعوى الجنائية للتحكيم المخالفات التي أجازت بعض القوانين الصلح فيها، كقانون المرور والجمارك والضرائب، فإنه يجوز التحكيم في هذه المخالفات. ويستثنى أيضاً الجرائم التي قيد فيها المشرع حق النيابة في مباشرة الدعوى الجنائية بتقديم شكوى من المجني عليه أو طلب كتابي من جهة حكومية أو إذن خاص من جهة حكومية، فهذه الجرائم يجوز فيها الصلح أو التحكيم؛ ويرجع ذلك الى أن المشرع أجاز التنازل عن هذه الجرائم في أي وقت إلى أن يصدر في الدعوى حكم نهائي م(31) من قانون الإجراءات الجزائية. ويؤدي الصلح أو التحكيم في هذه الجرائم الحاصل قبل تقديم الشكوى أو الطلب أو الإذن إلى تعطيل الدعوى الجنائي، أما إذا حصل الصلح أو التحكيم بعد تقديم الشكوى أو الطلب أو الإذن فإن ذلك يعد بمثابة تنازل عن الجريمة يؤدي إلى انقضاء الدعوى الجنائية.

3- المنازعات المتعلقة بأعمال سلطات الدولة:
يخرج عن مجال التحكيم المسائل التي تتعلق ببطلان وصحة أعمال سلطات الدولة الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية؛ وأساس ذلك أن طبيعة الدولة ونظامها الأساسي يجعلان الرقابة عليها رقابة داخلية متبادلة تمارسها كل سلطة من السلطات الثلاث على الآخرى، فالسلطة التشريعية تراقب أعمال السلطة التنفيذية، والسلطة التنفيذية تراقب بدورها أعمال السلطة التشريعية، والسلطة القضائية تراقب أعمال هاتين السلطتين معاً وتراقب أعمالها بنفسها رقابة ذاتية من خلال خضوع قضاء الدرجة الأدنى لرقابة الدرجة الأعلى.
وعلى ذلك لا يجوز التحكيم بصدد نزاع على دستورية قانون أو على قانونية لائحة أو على صحة قرار إداري أو على صحة إجراء من إجراءات التقاضي أمام المحاكم أو على رد القضاة أو على منازعة من منازعات التنفيذ؛ لأن هذه النزاعات تتعلق بصميم نظام الدولة.

4- المنازعات المتعلقة بحق غير قابل للتصرف:
يخرج عن مجال التحكيم المسائل المتعلقة بالحقوق التي لا يجوز التصرف فيها أو التنازل عنها، كالحقوق الفكرية- حق المؤلف وحق الملكية الصناعية- والأموال العامة، فقد نصت المادة (6) من قانون التحكيم على أنه: ” يشترط لصحة التحكيم أن يكون المحتكم أهلاً للتصرف في الحق موضوع التحكيم”.

وعلى ذلك لا يجوز التحكيم في الحقوق الفكرية التي لا يجوز التصرف فيها أو التنازل عنها، مثل المنازعات المتعلقة بالحقوق المعنوية للمؤلف كحقه في تعديل مؤلفه أو سحبه من التداول، والمنازعات المتعلقة بالشروط الموضوعية والشكلية لقبول تسجيل الملكية الصناعية، والمنازعات المتعلقة بجريمة الاعتداء على حق المؤلف أو جريمة تقليد العلامة التجارية. غير أنه يجوز التحكيم في الحقوق الفكرية التي يجوز التصرف فيها أو التنازل عنها، كالحقوق المالية الناشئة عن استغلال حق المؤلف أو الملكية الصناعية.

كما لا يجوز التحكيم أو الصلح في الأموال العامة المملوكة للدولة أو لأحد الأشخاص الاعتبارية العامة والمخصصة للمنفعة العامة بالفعل أو بمقتضى قانون أو قرار، فهذه الأموال غير قابلة للتصرف أو التنازل، ومن ثم لا يجوز التصالح أو التحكيم بشأنها.

وكذلك جعل المشرع حقوق العامل غير قابلة للتنازل أو التصرف بها، ومن ثم غير قابلة للتحكيم أوالتصالح، فلا يجوز الصلح أو التحكيم في المنازعة المتعلقة بحقوق العامل في الأجر وملحقاته والمنازعة المتعلقة بإصابات العمل. غير أن منع التصرف أو التصالح أو التحكيم في حقوق العامل ليس مطلقاً في الزمان، وإنما هو منع مؤقت شرع لمصلحة خاصة مرهون ببقاء علاقة العمل بين العامل ورب العمل.

ومقتضى ذلك عدم قابلية حقوق العامل أثناء قيام العلاقة بين العامل ورب العمل للتنازل أو التصالح أو التحكيم؛ وذلك لأن عدم المساواة بين مراكز الأطراف وتبعية العامل لرب العمل تبرر اللجوء إلى حماية القضاء لوجود الخشية من أن يقبل العامل التحكيم تحت تأثير نفوذ رب العمل، أما إذا انتهت علاقة العمل بين العامل ورب العمل فإنه يجوز للعامل التصرف في حقوقه بالتنازل عنها أو التصالح أو التحكيم فيها.

Loading