كتابات

نحو تقريب العدالة للخصوم في المنازعات الجنائية

رؤية مقترحة

من خلال تعديل بعض نصوص قانون الإجراءات الجزائية رقم 13 لسنة 1994م، على نحو يكون الحكم الابتدائي الصادر في الدعوى الجزائية غير الجسيمة نهائياً، غير قابل للطعن بالاستئناف، وقابلاً للطعن أمام المحكمة العليا

  دكتور /محمد يحيى السلمي*:

قال الله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) صدق الله العظيم.

مما لا شك فيه بأن تلك الفجوة القائمة بين الواقع والقانون (التطويل في الاجراءات لإصدار الحكم القضائي) قد ولدّت نظرة سلبية غير مقبولة لدى جمهور المتقاضين وغيرهم من المواطنين ببعد وقصور العدالة التي ينشدونها من أجهزة القضاء لاقتضاء حقوقهم محل التنازع وعلى وجه الخصوص بُعد العدالة في تلك الخصومة القضائية ذات الطابع الجنائي أمام المحاكم والنيابة العامة.

ولما كانت المنظومة العدلية وقيادة السلطة القضائية تسعى جاهدة للحد من تلك الفجوة بما غايته تقريب العدالة للخصوم من خلال تقديم خدمة قضائية ذات جودة شاملة (إصدار الحكم القضائي في أقصر فترة زمنية ممكنة وبأقل التكاليف المادية) ولا سيما سعيها المحمود الملموس اثره الإيجابي واقعاً وعملاً لجمهور المتقاضين بتطبيق التعديلات الجديدة للمقنن لبعض نصوص قانون المرافعات رقم40 لسنة 2002م الصادرة بالقانون رقم 1 لسنة2021م وعلى وجه الخصوص تعديل نص المادة (86) منه الذى جعل من الحكم الابتدائي الصادر في القضايا (أمر الاداء ـ الايجارات ـ الشفعة ـ الزواج ـ الطلاق ـ النفقة ـ الاختصاص …….الخ) نهائياً غير قابل للطعن بالاستئناف وقابلاً للطعن امام المحكمة العليا.

ولما كان ذلك وبالرغم من سبق قيامنا طرح مقال منشور بالعدد السابق من هذه الصحيفة الغراء بشأن تلك الاختلالات القائمة التي طرأت بين كل من النصوص النافذة بقانون المرافعات وتعديلاته الجديدة بشأن الطعن في الحكم الابتدائي الصادر في الاختصاص والتي ستحول من تطبيق هذه الأخيرة (النص المعدل بالمادة 86) واقعاً أمام المحاكم ، وبالرغم من عرضنا تفصيلاً الإشكالية واسبابها وطرحنا أيضاً الحلول والمعالجات المقترحة للأخذ بها لما فيه تحقيق المصلحة العامة غاية المشرع من تلك التعديلات لتقريب العدالة للخصوم وليس غيره إلا انه وبالرغم من كل ذلك الجهد فإنه وللأسف الشديد لم نلق أي استجابة أو إجابة لا سلباً ولا إيجاباً لندائنا أصحاب القرار في هذا الشأن انطلاقا من إيمان الباحث سلفاً بأن رأيه صائب يحتمل الخطاء إن ظهر وهو ما لم يكن بل لم نلق له صدى يذكر سوى تلك الاستجابة العميقة من رجل القانون سيادة القاضي الدكتور رئيس المحكمة العليا الذى رحب بالمقترح والأخذ به مع توصيته بضرورة بيان اتجاه المحكمة العليا (السوابق القضائية) الصادرة بقواعدها القانونية والقضائية في هذا الأمر للأخذ بها والسير على ضوئها ومن خلالها وهو أمر ليس بغريب عنه لسبق اهتمامه الشخصي في هذه المسائل المتعلقة بالصالح العام للموطن نحو تقريب العدالة لجمهور المتقاضين والذى لن يكون ذلك كذلك الا من خلال الحد من ذلك التطويل في الإجراءات القضائية غاية المشرع من التعديلات الأخيرة لقانون المرافعات بطريق تلافى وإزالة التعارض القائم بين نصوص قانون المرافعات بعضها البعض او ذلك التعارض القائم من جانب آخر بين نصوص كل من القانونين الإجرائيين الجزائي والمدني وكما سلف لنا بيان ذلك.

وفى حقيقة الآمر فإن ذلك كان دافعاً للباحث لطرح موضوعه محل السطور ـ وفى جانب آخر لما سبق له طرحه ـ امام القارئ والمطلع بل أمام المعنيين تحديداً من أصحاب القرار رجال الإدارة والإرادة الذى بيدهم تقريب العدالة للخصوم إن أرادوا ذلك بالفعل ، وانطلاقاً من ذلك فهذا هو الباحث يبذل الجهد والبحث من جديد لطرح وتقديم رؤياه ومقترحه المتواضع بما غايته تقريب العدالة للخصوم في المنازعات الجنائية من خلال قيام المقنن بتعديل بعض نصوص قانون الإجراءات الجزائية رقم 13 لسنة 1994م على نحو يكون الحكم الابتدائي الصادر في الدعوى الجزائية غير الجسيمة نهائياً غير قابل للطعن بالاستئناف وقابلاً للطعن أمام المحكمة العليا.

وحيث يجد المطلع والقارئ بناء هذا المقترح على الأسباب والمبررات الجادة الحقيقية الواقعية منها والقانونية والتي تتفق والمنطق السليم لتجسيد دور القضاء في تحقيق العدالة بإيتاء كل ذي حق حقه وفقاً للقانون دون ابطاء أو تأخير والمتمثلة في الآتي :

السبب الأول: تشير الإحصائيات القائمة الى أن غالبية القضايا المنظورة أمام القضاء الجنائي تكمن في القضايا الجزائية غير الجسيمة مما يؤدى الى تكدس القضايا الجزائية بنوعيها (الجسيمة وغير الجسيمة) أمام المحاكم بمختلف درجاتها الأمر الذى يترتب عليه بطء إجراءات التقاضي ومن ثم تأخير الفصل في تلك الخصومات وبالتالي بعد العدالة عن الخصوم لاقتضاء حقوقهم محل التنازع.

لذلك فإن إقرار المقترح من شأنه الحد من تلك الآثار السلبية والعمل على تقريب العدالة للخصوم.

السبب الثاني: إن إقرار المقترح من شأنه تفرغ الشعب الجزائية بمحاكم الاستئناف الى القيام بالفصل في الطعون المتعلقة بالقضايا الجزائية ذات الطابع الجسيم دون غيرها ودونما إبطاء أو تأخير الآمر الذى سيترتب عليه تقريب العدالة لأولئك الخصوم كذلك في هذا الشق من المنازعات الجنائية( الدعاوى الجزائية الجسيمة) للسبب القائم بطبيعة الحال عندئذٍ المتمثل في التخفيف من ذلك الضغط بتكدس القضايا التي تعانى منه الشعب الجزائية الاستئنافية في الوقت الراهن عند قيامها الفصل في كل من القضايا الجزائية (الطعون) بشقيها الجسيمة وغير الجسيمة.

السبب الثالث: إنه استباقا للرد ودفعاً لذلك القول المعارض للمقترح بأن الآخذ به سيؤدى الى الإخلال بحق الخصوم لإغفاله درجة التقاضي (المرحلة الاستئنافية) فإن ردنا على ذلك بأن إقرار هذا المقترح لا ضير منه لكونه لن يؤثر مطلقاً على تلك الضمانات المقررة قانوناً للمتقاضين التي حرص المشرع على  تقريرها من خلال نظر الدعوى الجزائية غير الجسيمة عبر درجات التقاضي الثلاث بحسب الحال ، ذلك أنه ليس من مانع أو حائل أمام تلك الإرادة الحقيقية لدى جهة الإدارة بقيادة السلطة القضائية وتوجهها لتقريب العدالة للخصوم بأن يتم التقرير كذلك في تعديل القانون الإجرائي الجزائي على نحو يخول المحكمة العليا وهى بصدد نظر الطعن بالنقض في الحكم الابتدائي الصادر في الدعوى الجزائية غير الجسيمة تولي التعرض لموضوع الدعوى الى جانب اختصاصها الأصيل محكمة قانون المنصوص عليه بالمادة (431) إجراءات جزائية، الأمر الذى سيجسد حقيقة وقانوناً تلك الضمانات للمتقاضين دون إنقاص منها إن اقتضى الامر ذلك أحياناً واستثناء وبالتالي تقريب العدالة للخصوم فعلاً وحقيقةً وواقعاً.

السبب الرابع: من المعلوم سبق قيام المشرع قصر حق التصرف في الدعاوى الجزائية غير الجسيمة وهى في طور مرحلة التحقيق على النيابة الابتدائية لإدراكه سلفاً طبيعتها وأن التطويل في الإجراءات أثناء التحقيق الابتدائي لهذا النوع من الدعاوى سيرهق الخصوم دون مبرر منطقي إذا ما تم النظر لأهميتها وجسامتها وخطورتها فحصر تحريكها ورفعها أمام المحكمة الابتدائية بمرحلة إجرائية واحدة وبواسطة النيابة الابتدائية دون مرحلتين من الإجراءات القضائية كما هو الشأن بالنسبة للدعاوى الجزائية الجسيمة الواجب مرورها عبر مرحلتي التحقيق أمام كل من النيابة الابتدائية ونيابة الاستئناف.

ولما كان ذلك كذلك وكان المشرع قد ارتأى سلفاً الحد من إطالة الإجراءات لهذا النوع من الدعاوى لحرصه عدم إرهاق الخصوم من تطويل أمد النزاع دون مقتضى وكما اسلفنا ، فلماذا إذاً والحال كذلك لا يتم قصر مرحلة الطعن في الحكم الابتدائي الصادر في هذه الدعاوى على المحكمة العليا لما من شأنه كذلك الحد من ارهاق الخصوم في مراحل المحاكمة القائمة وبالتالي تقريب العدالة لهم لاقتضاء حقوقهم المتنازع فيها وفقاً للقانون في أقل مدة زمنية ممكنة ، الأمر الذى نعتقد معه بأن مقترحنا محل السطور يلقى قبولاً سائغاً للأخذ به من هذا الجانب كذلك.

السبب الخامس: ان العمل الجاري به في الأنظمة القضائية والقانونية المقارنة يقتصر على نظر القضايا الجزائية ذات الطابع غير الجسيم على مرحلتين فقط (درجتين قضائيتين) ومثاله النظام القانوني المصري.

السبب السادس: إن تقرير المقترح من شأنه التخفيف للجهود البشرية (الكادر القضائي) والتقليل الاكيد من تلك النفقات المادية التي يقع عبء تحملها على عاتق المحاكم الاستئنافية عند نظرها القضية الجزائية ذات الطابع غير الجسيم (سواءً تلك النفقات التي تتكبدها السلطة القضائية في هذه المرحلة أو تلك النفقات التي تتكبدها أيضاً السلطة التنفيذية بالحبس ونقل المساجين ….الخ).

السبب السابع: إن تقرير المقترح لن يؤثر سلباً على حقوق المتقاضين في الجانب المدني (التعويض) للخصم المنظم للنيابة العامة في الدعوى الجزائية غير الجسيمة بل على العكس فالأخذ بالمقترح سيمكن المتقاضي المدعي بالحق الشخصي والمدني من اقتضاء حقوقه القانونية في أقصر مدة زمنية ممكنة وبأيسر التكاليف الامر الذي سيلمس معه المواطن بالفعل قرب العدالة منه لاقتضاء حقوقه محل التنازع.

السبب الثامن: لا يخفى المطلع بأن الحد الاقصى للعقوبة التعزيرية السالبة للحرية للجريمة غير الجسيمة (الحبس ثلاث سنوات) بقانون الجرائم والعقوبات رقم 12 لسنة 1994م في حين أن إجراءات التقاضي واقعاً لتلك الدعاوى قد تمتد امام درجات التقاضي الثلاث لمدة زمنية طويلة تفوق مدة العقوبة المذكورة، وهو خلل قائم في أحكام القانون الجنائي بين قواعده الإجرائية والموضوعية يرفضه المنطق والعقل السليم، الآمر الذى يلقى المقترح استجابة له من هذا الجانب أيضاً.

السبب التاسع: أن هذه الرؤيا وهذا المقترح محل السطور ليس بجديد أو بدعة من الباحث بقدر ما هو اتباع أصلاً لما هو ليس ببعيد عن تحقيق الغاية المرجوة (تقريب العدالة للخصوم في المنازعات المدنية) التي هدفت إليها قيادة السلطة القضائية سلفا ًمن خلال قيامها نحو تعديل القانون الإجرائي في الجانب المدني لبعض نصوص قانون المرافعات والتنفيذ المدني رقم40لسنة2002م الصادر بالقانون رقم1لسنة 2021م.

وهو ما نأمل تجسيده كذلك في المنازعات القائمة أمام القضاء الجنائي بالأخذ بمقترحنا وجهدنا المتواضع لما فيه تحقيق المصلحة العامة وتقريب العدالة للخصوم وجمهور المتقاضين لا سيما وحد علمنا قيام الجهات المعنية حالياً صوب تعديل أحكام قانون الإجراءات الجزائية رقم 13 لسنة 1994م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث قانوني -دكتوراه في القانون ـ جامعة القاهرة

 

Loading