كتابات

معنى (ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة)

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين*

نص قانون الإثبات على هذه القاعدة في المادة (8)، وقد أخذ قانون الإثبات هذه القاعدة من معين الفقه الإسلامي الذي أقام هذه القاعدة في وقت مبكر، ومن التطبيقات القضائية لهذه القاعدة ماورد في قضاء الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 21-11-2006م في الطعن رقم (27578)، الذي ورد ضمن أسبابه: ((ومن جهة ثالثة فالحكم تأسس على رفض الدعوى للتقادم، فلا تسمع بعد ذلك أدلة تلك الدعوى، فما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة، عملاً بالمادة (8) من قانون الإثبات، مما يتعين معه رفض الالتماس موضوعاً))، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: السند القانوني للحكم محل تعليقنا:

استند الحكم محل تعليقنا في قضائه بأن ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة، استند الحكم إلى المادة (8) إثبات حسبما هو ظاهر في أسباب الحكم، وقد نصت المادة (8) إثبات على أن (ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة لا العكس)، وبناءً على ذلك فإن هذه القاعدة قاعدة قانونية وليست قاعدة قضائية، فالقاعدة القانونية هي تلك التي ترد كنص ضمن نصوص القانون، في حين ان القاعدة القضائية عبارة عن اجتهاد القاضي في تطبيقه للنص القانوني العام المجرد، حيث تكشف القاعدة القضائية عن كيفية تطبيق القضاء وفهمه لنصوص القانون، كما ان القاعدة  القضائية في حالات كثيرة تعالج غموض بعض النصوص القانونية أو عدم  وجود نصوص في القانون  بشأن بعض الوقائع.

الوجه الثاني: معنى قاعدة: ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة:

معنى هذه القاعدة أنه: إذا ورد نص شرعي او قانوني يقضي بأن الحق لا تسمع فيه الدعوى للتقادم أو غيره، وتمسك المدعى عليه بذلك النص، وثبت للقاضي صحة دفع المدعى عليه بعدم سماع الدعوى في ذلك الحق، امتنع على القاضي في هذه الحالة الاستماع إلى أدلة إثبات الحق المدعى به، لأنه قد سبق ثبوت عدم سماع الدعوى بالحق ذاته، وحتى يتثبت القاضي من جواز سماع الدعوى فقد تضمن قانون المرافعات الدفوع المتعلقة بعدم سماع الدعوى، وأوجب القانون على الخصوم تقديمها بداية، وأوجب القانون على الدافع ان يقدم الأدلة على صحة دفعه وبيان أسباب عدم سماع الدعوى في الحق المدعى به، ومن خلال ذلك يظهر للقاضي مدى جواز سماع الدعوى بالحق، فإذا توصل القاضي من خلال ذلك إلى عدم سماع الدعوى، فإنه يقضي بقبول الدفع وعدم سماع الدعوى، فعندئذٍ يتعين على القاضي عدم سماع البينة أو الادلة  على الحق المدعى به في الدعوى التي قضي بعدم سماعها، عملاً بالقاعدة القانونية: ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة.

الوجه الثالث: نطاق تطبيق قاعدة: ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة:

هذه القاعدة الاجرائية قاعدة عامة يتم إعمالها أمام القاضي الذي قضى بعدم سماع الدعوى إذا ظلت القضية منظورة لديه، كأن يكون حكمه بعدم السماع في دعوى إضافية أو طلب عارض، فلا يجوز للخصم عندئذ ان يقدم بينة متعلقة بالحق المدعى به في الدعوى المحكوم بعدم سماعها، كما لا يجوز للخصم ان يتمسك بالبينة على الحق المدعى به أمام محكمة الطعن مستدلاً بالبينة المتعلقة بالحق المدعى به في الدعوى التي حكمت المحكمة الأدنى بعدم سماعها، ولذلك لاحظنا ان الحكم محل تعليقنا قد قضى بعدم سماع بينة الطاعن، لأن الحكمين الابتدائي والاستئنافي كانا قد قضيا بعدم سماع دعوى الطاعن لتقادم الحق المدعى به.

الوجه الرابع: المقصود بالبينة في قاعدة: ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة:

المقصود بالبينة في هذه القاعدة: هي كافة الأدلة كالشهادة والمحررات والقرائن وتقارير الخبرة وغيرها، فلا يقصد بالبينة في هذه القاعدة شهادة الشهود بحسب رأي جمهور الفقهاء الذين ذهبوا إلى أن البينة مرادفة للشهادة، أي: أن مفهوم البينة يقتصر على شهادات الشهود، فالمقصود بالبينة في هذه القاعدة قول بعض الفقهاء كابن القيم الذين إلى البينة لا تختص  بالشهود، بل هي أعم من هذا، شاملة لكل ما يبين الحق ويوضحه، قال ابن القيم: “فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة، أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الحجة، والدليل والبرهان مفردة، ومجموعة، وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم: “البينة على المدعي” المراد به أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له، والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرهما من أنواع البينة قد يكون أقوى منهما، كدلالة الحال على صدق المدعي فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد، ومع أن جمهور العلماء يرون أن البينة مرادفة للشهود فإنه لا يوجد تعليل لتخصيص البينة بالشهود، ولعل الذي حدا بجمهور الفقهاء على أن يخصوا البينة بالشهود أن البينة قد وردت في النصوص الشرعية في أكثر من موضع مرادا بها الشهود وحدهم (طرق الإثبات في الشريعة والقانون، الدكتور أحمد عبد المنعم البهي ص٥).

 الوجه الخامس: جواز سماع البينة للاستدلال بها على حق آخر غير الحق المدعى به الذي سبق الحكم بعدم سماع الدعوى فيه:

إذا كان من المقرر ان ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة، فإن البينة تسمع إذا استدل بها المدعي في حق آخر غير الحق الذي سبق الحكم بعدم سماع الدعوى فيه.

الوجه السادس: عكس القاعدة: ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة:

استند الحكم محل تعليقنا في قضائه إلى المادة (8) إثبات التي نصت على ان عكس القاعدة جائز، فقد نصت المادة (8) إثبات على أنه (ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة لا العكس)، وهذا يعني أنه إذا جاز سماع الدعوى في الحق المدعى به جاز سماع البينة على ذلك الحق.

الوجه السابع: الفقه الإسلامي مصدر قاعدة: ما لا تسمع فيه الدعوى لا تسمع فيه البينة:

من خلال تتبع جذور هذه القاعدة نجد أنها مستفادة من كتب الفقه الإسلامي، فقد وردت هذه القاعدة في كتابات الفقهاء، فعلى سبيل المثال ورد في شرح الازهار لابن مفتاح ما نصه: ( بينهم وقال ف ومحمد يقبل إن وصل لا إن فصل قيل ي وهذا قول م بالله وقيل ح للم بالله قولان يقبل ولا يقبل (فصل ولا تسمع دعوى) حصل فيها أحد أربعة أمور إما (تقدم ما يكذبها  محضا)  مثال ذلك أن يدعى رجل عند رجل وديعة له فيقول الوديع: ما أودعتني شيئا فيقيم المدعي البينة على أنه أودعه فيدعي بعد ذلك أنه قد ردها  فان هذه الدعوى  لا تسمع ولو أقام البينة عليها لأن قوله من قبل ما أودعتني شيئا يكذب دعواه وشهوده  لأنه لا يرد ما لم يودع وهذا بخلاف ما لو قال: مالك  عندي وديعة فانه يصح دعوى الرد بعد ذلك لأنه يحتمل انه أراد مالك عندي وديعة في هذه الحال لأنى قد رددتها عليك اما لو تقدم الدعوى ما يكذبها في الظاهر وليس بمحض في التكذيب  فانه لا يبطلها مثال ذلك ان يدعي رجل على غيره حقا فيقول المدعى عليه: ما له على حق ولا اعرف ما يقوله فيأتي المدعي بالبينة على ما ادعاه فيقول المدعى عليه: إني قد أوفيتك ذلك الحق أو قد أبرأتني منه، وبين على ذلك فإنها تسمع دعواه وتقبل بينته ولا يقدح فيها ما تقدم من انكاره ولا يكون ذلك تكذيبا لشهوده بل كان انكاره مطابقا للشهادة لأنه قال: ماله علي شيء وهو إذا كان قد أوفاه دينه لم يكن عليه شيء في الحال التي ادعاه فيها، وقوله: لا اعرف ما يقوله، معناه: لا اعرف ما يقوله من ثبوت الحق علي لأنه بعد التوفير لا يكون ثابتا وكذلك  لو قال: مالك علي شيء قط، قال في الكافي: ولو اراد رد سلعة بالعيب على انسان وادعى انه شراها منه، فقال: ما بعت منك، فلما اقام البينة بذلك اقام البائع البينة بأنه قد رضى بالعيب فإنها تقبل  منه وعند ابى ح وش لا تقبل، قال: ولو ادعى على غيره ثمن ثوب وكله ببيعه فانكر ذلك فلما اقام المدعي البينة على انه باع ثوبه بالوكالة وقبضه ادعى الوكيل انه قد وفر، ( شرح الازهار لابن مفتاح 4/129).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء.

 

Loading