كتابات

سبق الإصرار والترصد

بقلم المحامية /

نسمة عبدالحق النجار.

فارق  المجني عليه حياته على يد الجاني الذي تحقق في جريمته القصد الجنائي  وبقي لأولياء دم الأول المطالبة بإعدام الثاني قصاصاً ، وسواءً توفر ظرفا سبق الإصرار والترصد أو أي ظرف مشدد أم لم يتوفر ، فإن الإعدام هي العقوبة الأصلية ولا يؤخذ بأي ظرف مشدد لترقى عقوبة القتل العمد إلى الإعدام ، هذا هو قول اسلامنا الحنيف والأنظمة القانونية التي تأخذ به ، على عكس من لم تأخذ به كما سنرى في السطور القادمة من هذا الموضوع .

يعرف سبق الإصرار بأنه : العزم المصمم عليه قبل ارتكاب الجريمة ، والمفهوم الواسع له يمكن تطبيقه على الجروح والطعنات الإرادية ولا يقتصر على جرائم القتل العمد فحسب ، ذلك ما ذهب اليه أغلب شراح القانون.

كما  يعرف بأنه : ظرف مشدد مضاف لأركان جريمة القتل العمد ، ويستلزم وجود مدة زمنية بين سبب الجريمة وارتكابها، كما نص القانون المصري في المادة (231/ عقوبات) إن الإصرار السابق هو : القصد المصمم عليه قبل الفعل.

وهناك حالتان لتمييز وجود سبق الإصرار من عدمه بيانهما كالتالي:

الحالة الأولى وهي: القتل الذي يقع بعد التروي والإمعان والتفكير مرتبطاً بالعزيمة والإقدام ، وهذه الحالة تدل على شراسة الجاني وميوله متعمداً بإرادته لارتكاب الجريمة.

الحالة الثانية وهي :القتل الذي يقع بدافع الغضب والإثارة ، وفي هذه الحالة يكون الدافع مؤثراً خارجياً طارئاً لا يستطيع معه الجاني تقدير نتائج عمله فارتكاب الجريمة في الحال دليل على انتفاء وجود سبق الإصرار ، والوقت بين العزم والتصميم واقتراف جريمة القتل متروك  لتقدير محكمة الموضوع ، لأن سبق الإصرار حالة ذهنية بحتة تثبت عادةً بالاعتراف والقرائن والظروف المصاحبة للجريمة .

ومن التطبيقات القضائية لسبق الإصرار ما قضت به محكمة التمييز عندما أدانت الجاني القاتل بجريمة القتل مع سبق الإصرار  بعد أن تبين لها أن نية القتل اتخذت بكامل هدوء الجاني واستقراره الفكري والنفسي وهو يراقب ضحيته ويخطط ويعزم لارتكاب الجريمة .

كما قضت في حكم آخر لها بإدانة المتهم بالقتل العمد مع سبق الإصرار لأنه تبين أنه هيأ مسدسه ودخل محل المجني عليه وأطلق عليه النار دون مقدمات ، وبهذا الشأن يقول القضاة في قرارهم : ‘إذا كانت جريمة القتل قد وقعت بناءً على اتفاق سابق بين المتهمين فإن الظرف المشدد -سبق الإصرار- قد توفر”.

 

ولكن هل مصطلح سبق الإصرار هو نفسه مصطلح الترصد الذي دائماً ما يتلازم ويتلازب ذكرهما معاً ؟!

يتشابه المصطلحان في أن كلاهما ظرفاً مشدداً ، ويختلفان من حيث الطبيعة، فسبق الإصرار كما سبق القول هو حالة ذهنية بحتة وتقدير أدلته مسألة موضوعية بحتة، أما الترصد فهو ظرف عيني مشدد ويترتب على كليهما رفع العقوبة من السجن المؤبد أو المؤقت إلى الإعدام في الأنظمة التي لا تحذو حذو الإسلام .

والترصد يعني انتظار الجاني للمجني عليه في مكان معين لمباغتته والاجهاز عليه دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه ، وفي أغلب الأحيان يسبق ذلك سبق إصرار وقد لا يسبقه ، وفي قرار لمحكمة التمييز فإن الترصد بمعناه القانوني لا يلزم أن يكون مقترناً او مسبوقاً بسبق الإصرار بل يصح أن يتواجد بدونه، ويتحقق سواء كان انتظار الجاني للمجني عليه في مكان مستتر كخلف جدار او ظاهر كطريق عام ، بل قد يكون  في مكان خاص كأمام منزله ، ولا يؤثر في قيام الظرف المشدد الخطأ في شخصية المجني عليه أو الحيدة عن الهدف.

ويتكون ظرف الترصد من عنصرين أحدهما زمني والآخر مكاني ، ويسري على جميع مرتكبي الجرائم سواء ً كانوا فاعلين أصليين أم مجرد شركاء فيها ، وإثباته يخضع للقواعد العامة، فهو واقعة مادية قد تثبت بالاعتراف أو شهادة الشهود، وقد نص على  الظرفين السابقين  التشريع الفرنسي وتشريعات أخرى.

أما القانون اليمني لم  ينص أو يسلك ذلك المسلك بل أخذ ما أخذت به الشريعة الإسلامية والتي لم تعترف بأي ظرف مشدد في الجرائم التي تثبت عمديتها وطالب أولياء دم  المجني عليه بالقصاص،  فالقصد الجنائي يُعرف بأنه: توفر النية عن علم وإرادة لإحداث النتيجة الإجرامية، وذلك بتوقع وقبول النتيجة الإجرامية  ، وفي القتل العمد العقوبة الأصلية هي الإعدام في الشريعة الإسلامية والقوانين التي تعتنقها كاليمن  ولا توجد عقوبة أشد من ذلك ، ولما كان الأمر كذلك فإنه لا عبرة بوجود او اعتناق أي ظرف مشدد طالما أدت جريمة القتل العمد إلى وفاة المجني عليه ولو لم يتوفر أي ظرف مشدد كسبق الإصرار أو الترصد ، فهل هناك عقوبة أشد من الإعدام نتيجة القتل العمد ؟!

فالإسلام والقانون اليمني لم يعتنقا ذلك لأن القصد الجنائي قد تحقق بصفته  الموحدة والعقوبة واحدة  ولحرمة النفس وعصمتها في ديننا الحنيف اياً كانت وكيف ما كانت ظروف القتل مشددة أو غير مشددة.

ومبرر الأخذ بفكرة القصد المشدد وتحديداً ظرفي سبق الإصرار والترصد في بعض النظم العقابية وخاصةً التي لا تعتنق الإسلام هو  أن العقوبة في القتل العمد بتوافر القصد البسيط تختلف عنها عند توافر القصد المشدد كحالتي سبق الإصرار والترصد ، ففي الحالة الأولى تكون العقوبة أصلية لا تصل للإعدام وأقصى ما يمكن أن تصل إليه هو السجن المؤبد، ولكن في الحالة الثانية تكون العقوبة مشددة أكثر من الحالة الأولى قد تصل إلى الإعدام.

ولكن هل يعني عدم ورود الظرفين محل الحديث نصاً في قانون العقوبات اليمني دلالة على عدم جواز الأخذ بهما ؟

أرى كما يرى معظم القانونيين ان  لظرفي سبق الإصرار والترصد أو أي ظرف مشدد دوراً في  الاستئناس  والتدقيق عند إضفاء الوصف والتكييف للجريمة ومعرفة مدى خطورة الجاني من عدمه ، وكذلك قد يساعد  في  التحقق من وجود حالة دفاع شرعي من عدمه ، فعند ثبوت سبق إصرار الجاني أو ترصده للمجني عليه نكون أمام اعتداء يستوجب الدفاع الشرعي ، فذلك عامل مساعد لقاضي الموضوع لتكييف القضية وإضفاء الوصف القانوني المناسب لها، وكذلك عامل مساعد لإثبات المدافع انه كان بصدد دفاع شرعي، فتلك قرائن تدل على وجود نية مسبقة للاعتداء، وكذلك لمعرفة ما إذا كان القتل عمداً أم خطأً وغيرها من الإرشادات والدلائل التي يمكن استنباطها من ظرفي سبق الإصرار والترصد .

و يوصي الكثيرون المشرع اليمني ويدعوه إلى إعتبار  ظرفي  الإصرار والترصد ظرفين  مشددين لعقوبة القتل العمد لتصل للتعزير عند سقوط الإعدام قصاصاً ،  وذلك حتى لا يفلت الجاني من العقاب،  الأمر الذي يستلزم من المشرع التدخل لكي لا تضيع الدماء لمجرد سقوط الإعدام قصاصاً عن الجاني وعدم وجود مستند للقاضي للحكم بالإعدام تعزيراً إلا إذا توافر بجانب ظرفي سبق الإصرار والترصد إحدى الحالات التي وردت حصراً في المادة (234) من قانون العقوبات،  فعند تحقق ذلك فالإعدام تعزيراً سيكون مستنده أحد الظروف المشددة الواردة حصراً في المادة سالفة الذكر لا لتوافر ظرفي سبق الإصرار والترصد بمفردهما .

وبالأخير ،،،

نلاحظ عظمة  ورحمة ديننا الإسلامي الحنيف الذي يشع نوراً  ويأبى أن ينطفئ ، كيف لا وهو من عند الله العادل الذي يأمر بالعدل والمساواة فحرمة النفس واحده وهي إحدى الكليات الخمس التي يجب المحافظة عليها وردع كل من تسول له نفسه الاعتداء على بنيان الله في الأرض ، فلا عبرة بالتفرقة التي أخذت بها النظم التشريعية الوضعية التي لم تحذو حذو الإسلام  ، وحسناً من المشرع اليمني أن انتهج نهج الشريعة الإسلامية وهذا ليس بغريب عنه  فهو الذي نص في المادة الثالثة من الدستور  على أن الشريعة الإسلامية مصدر كل التشريعات.

انتهى هذا ( وفوق كل ذي علمٍ عليم )،،،

Loading