تجاوز حق الدفاع الشرعي وأثره في القانون اليمني
“من مجني عليه إلى مجرم في نظر القانون!”
منى ناصر الجماعي
محامية وباحثة دراسات عليا في القانون
يعد حق الدفاع الشرعي من المبادئ الراسخة في القوانين الوضعية والتشريعات الجنائية, إذ يتيح للفرد مواجهة الخطر المحدق به أو بغيره عندما يكون التدخل الفوري هو السبيل الوحيد لحماية النفس أو المال أو العرض, ويستند هذا الحق إلى الفطرة الانسانية التي جُبلت على البقاء ورد أي عدوان قد يطرأ عليها, ونظراً لطبيعة الاختلافات الواردة على النفس البشرية من شخص إلى آخر, قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) سورة هود (الآية 118).
وأن صراع الإنسان ضد الجريمة ليس إلا فصلاً من قصة صراعه الطويلة ضد قوى الشر, ومن هنا ينشأ دفاع الإنسان عن نفسه استثناء من القاعدة العامة التي تنص على أنه لا يجوز للشخص أن يقتص لنفسه بنفسه.
وقد جاء القانون اليمني بتنظيم حق الدفاع الشرعي ضمن إطار يضمن التوازن بين حماية الأفراد ومنع الفوضى, حيث يشترط أن يكون الدفاع متناسباً مع جسامة التهديد, وألا يتجاوز الحدود المعقولة لرد الاعتداء, ويقصد بتجاوز حق الدفاع الشرعي أن يستخدم المدافع عن نفسه أو غيره قوة تزيد على الحد الضروري لرد الاعتداء, بحيث يصبح فعله غير متناسب مع جسامة الخطر الذي يواجهه.
ومن هنا يثار التساؤل الجوهري: هل تقوم المسؤولية الجنائية في حال تجاوز المدافع لحدود الدفاع الشرعي؟ وهل يعتبر التجاوز ذريعة للاعتداء والانتقام في هذه الحالة, وما هو الأثر المترتب على هذا التجاوز, وبموجب القانون اليمني فإن الدفاع الشرعي يكون مشروعاً فقط إذا اقتصر على القدر اللازم لدفع الاعتداء, أما إذا تجاوز ذلك الحد بحيث لم يعد الفعل دفاعاً، بل انتقاماً أو اعتداءً, فإنه يخرج عن نطاق المشروعية ويعرض المدافع للمساءلة القانونية.
ووفقاً لمبدأ التناسب يتم اعتبار الدفاع قد تجاوز حدوده إذا تم استخدام قوة مفرطة تفوق الحاجة لصد الاعتداء, مثل قتل المعتدي رغم إمكانية منعه بأقل من ذلك, أو استمرار الاعتداء بعد زوال الخطر الفعلي مثل ملاحقة المعتدي والانتقام منه بعد توقف هجومه, أو اللجوء إلى وسائل دفاع غير مشروعة أو لا تتناسب مع خطورة الاعتداء مثل استخدام سلاح ناري ضد اعتداء بسيط بالأيدي.
وبالتالي إذا ثبت أن المدافع تجاوز الحدود المسموح بها قانوناً متعمداً وقاصداً, هنا يحاسب على أساس الجريمة التي ارتكبها وقد يتحول من كونه مدافعاً عن نفسه إلى معتد “من مجني عليه إلى جانٍ” وبالتالي يعامل كفاعل لجريمة اعتداء أو قتل عمدي إذا ترتب على تجاوزه وفاة المعتدي, أما إذا كان التجاوز غير مقصود أو بسبب الاندفاع الذي يصاحب الشعور بالخطر في هذه الحالة قد يخفف العقاب على المدافع, وينظر إلى الفعل كجريمة غير عمدية, كونه ناتجاً عن خطأ في التقدير أو الاضطراب النفسي أثناء مواجهة الخطر.
ويعتبر الدفاع الشرعي سبباً لإباحة الفعل فإن تجاوزه يؤدي إلى المساءلة القانونية مع إمكانية تخفيف العقوبة وفقاً لملابسات كل حالة على حدة, غير أن المشرع اليمني لم يسلك مسلك معظم التشريعات الجنائية المقارنة حيث تقرر وجوب تخفيف العقاب إذا تبين للقاضي عذر للمدافع, والنزول بالعقوبة إلى حدها الأدنى وعدم جواز الحكم بالحد الأقصى للعقوبة, ويتضح ذلك بصورة جلية في نص المادة (30) من قانون الجرائم والعقوبات, والتي تنص على: “إذا تجاوز الشخص بإهماله حدود الإباحة أو الضرورة أو الدفاع الشرعي يعاقب على هذا التجاوز إذا كان القانون يجرمه بوصفه جريمة غير عمدية”.
والملاحظ أن المشرع في المادة (30) من قانون الجرائم والعقوبات لم يبين سوى حكم التجاوز الناجم عن خطأ المدافع غير العمدي في صورة الاهمال فقط, مما يعني أن التجاوز العمدي لحدود الدفاع الشرعي قد يعامل بوصفه جريمة عمدية, وتطبق عليه العقوبات المنصوص عليها في القانون, هذا بالإضافة إلى أن المشرع لم يمنح صراحة للمدافع حق التمسك بتخفيف العقوبة إذا تبين حسن نيته وعدم جسامة خطئة, كذلك لم يوجب القانون على القاضي عدم الحكم بالحد الأقصى لعقوبة الجريمة غير العمدية حال ثبوت حسن نية المدافع, فله أن يبلغ هذا الحد أو يتفاداه حسبما يراه ملائماً, أما في حالة التجاوز العمدي, فإن فعل التجاوز يشكل جريمة عمدية قائمة بذاتها وفقاً لنوعها, ويسأل المتجاوز عنها بهذه الكيفية وفقاً للقواعد العامة للعقاب ونصوصه.
تجدر الإشارة إلى أن التجاوز العمدي حالة قانونية تتضمن ثبوت علم المدافع بحقيقه فعله واتجاه إرادته لإحداث النتيجة, وبالتالي يتحقق العمد في التجاوز باتجاه إرادة المتجاوز إلى إحداث السلوك التجاوزي ونتيجته التي يترتب عليها بواقع الحال قيام المسؤولية الجنائية, وذلك بناء على حجم التجاوز والأضرار المرتبة عليه.
وبالتالي إذا تسبب المدافع في قتل المعتدي دون أن يكون هناك ضرورة طارئة لذلك, فإنه يحاسب على جريمة القتل, وقد يكون هناك تخفيف للعقوبة وفقاً لظروف كل حالة على استقلال كما تم الذكر سابقاً.
كما قد يعاقب المدافع بجريمة الايذاء العمدي إذا أدى تجاوزه إلى إصابة المعتدي بجروح خطيرة, ومع ذلك فقد يتم تخفيف العقوبة إذا ثبت أن المدافع في حالة اضطراب نفسي شديد بسبب الاعتداء عليه.
والجدير بالذكر أنه في حال عدم قيام المسؤولية الجنائية ضد المدافع المتجاوز فقد تقوم بصدده المسؤولية المدنية الناشئة عن الاضرار التي لحقت بالمعتدي, مما يعني إلزامه بدفع تعويضات مالية عن الاضرار الجسدية أو الخسائر التي تكبدها بسبب التجاوز في استخدام القوة.
وهذا ما يوضح لنا أن حق الدفاع الشرعي ليس ترخيصاُ مفتوحاُ لاستخدام العنف دون ضوابط ولذلك لابد من ادراك حدود الدفاع الشرعي وفهم أبعاده وملابساته بدقة حتى لا يتحول المدافع إلى معتد في نظر القانون, وبدلاً من كونه المجني عليه يصبح جانياً.
ولا مناص من تخفيف عبء المسؤولية الجنائية إذا كان المدافع قد ولج دون ذنب في حالة من الاثارة النفسية, كالهياج أو اليأس, نتج عن احدهما أو كليهما الاعتداء على حياة أو صحة الغير, نتيجة تجاوز حدود الدفاع وعدم التقيد باللزوم والتناسب في محاولة درء خطر الضرر الناجم عن الاعتداء عليه أو الشروع فيه أو ما اعتقد أنه كذلك, ولو مع تخلف عنصر العدوان عليه.
وتكمن العلة في تخفيف درجة المساءلة الجنائية وبالتالي العقاب هنا, في أنه وإن كان لا يجوز مبدئياً لأحد التضحية بحياة الغير أو صحته أو ماله في سبيل حماية حياته وصحته أو ماله, باستثناء احوال معينة نص عليها القانون, إلا أنه لابد أحياناً في حالة الدفع الشرعي من مراعاة مأساوية الموقف الذي قد وجد المدافع نفسه فيه, حيث لا يمكن اللجوء إلى مقاييس بطولية في ضبط سلوكه, بحيث يتوقع منه ما ليس في إمكانه, كالتصرف بحزم ورباطة جأش إزاء الموقف, أو التضحية بنفسه أو صحته أو حياة غيره ممن يهمه أمرهم في سبيل الآخرين.
والمقرر فقهاً وقضاءً أن قيام المسؤولية الجنائية عن التجاوز العمدي لحدود الدفاع الشرعي يتطلب من قاضي الموضوع إجراء الموازنة بين الاعتداء وأفعال الدفاع الشرعي, فإذا أدان المدافع باعتباره متجاوزاً حدود حق الدفاع دون إجراء هذه الموازنة على ضوء ما ينكشف للقاضي من ظروف الدعوى وملابساتها والتقارير الطبية, فإن الحكم يكون معيباً متوجباً نقضه.
كما قد يثار في هذا الصدد نية المدافع الحقيقية فيختلف الوضع إذا كان التجاوز قد حدث بحسن نية, وحسن النية في الدفاع هي اتجاه ارادة المدافع إلى الدفاع, وقيام الاعتقاد لديه بأن سلوكه الدفاعي هو السبيل الوحيد لرد الاعتداء أو تفادي خطره, ولكن اعتقاده ذلك يكون قائماً على خطأ منه في تقييم ظروف الدفاع والعدوان.
وفي التجاوز يختلف حسن النية إذا المدافع قصد إحداث السلوك التجاوزي ونتيجته, أو كان يعلم أن فعله أشد جسامة مما يستلزمه رد العدوان, وذلك أن القانون يتطلب في سبيل استفادة المتجاوز بالقدر المخفف للعقاب على تجاوزه, أن يكون رغم تعديه الحد المادي ملتزماً الحد المعنوي, أي مدفوعاً بباعث الدفاع لا التشفي والانتقام إرواءً لحفيظة غل سابق في نفسه على الجاني مثلاً أو لحقد طارئ.
ويذهب فريق من الفقهاء إلى أنه متى ثبت أن المدافع كانت لديه أسباب معقولة تبرر تجاوزه الذي ارتكبه بحسن نية, انتفى لديه الخطأ العمدي, وبالتالي مسؤوليته الجنائية.
وقد يتحقق التجاوز في الدفاع الشرعي دون قصد ودون خطأ وقع من جانب المدافع, ومع ذلك لا تقوم المسؤولية الجنائية لتخلف عنصر أو اكثر من عناصر الركن المعنوي, كما لو كان المدافع الذي تجاوز حدود الدفاع عديم الأهلية, أو كاملها إلا أن إرادته كانت معيبة في تكوينها, كما لو كانت ظروف نشوئها غير طبيعية, كحالة الاكراه المعنوي أو الفزع الشديد أو الرعب والرهبة المؤثرة على الإرادة تأثيراً بالغاً.
ويجدر بالذكر أنه في حالة العمد التي يعلم فيها المدافع بأن فعله من البداية غير متناسب مع الخطر, وأنه باستطاعته رده بوسيلة اخرى إلا أنه تعمد المبالغة في الرد منتهزاً حالة الدفاع الشرعي ليخفي قصده الجنائي, ففي هذه الحالة لا نكون بصدد تجاوز حدود الدفاع, وإنما بصدد جريمة عمدية.
وفي حالة انتفاء الخطأ, أي حالة التجاوز مع انتفاء القصد الجنائي, سواءً بوصف العمد أو غير العمد, أي لم يقصد المدافع تجاوز حدود الدفاع الشرعي, وأنه لم يقم بالفعل إلا بعد التأكد والتحري, وأنه قد قام بالفعل اللازم لرد العدوان بحرص شديد, بحيث يكون مسلكه هو مسلك الرجل العادي في ظروفه, ففي هذه الحالة سينتفي الخطأ وتنتفي بالتالي المسؤولية الجنائية لعدم توافر الركن المعنوي للجريمة المتمثلة في العنصر الموضوعي للتجاوز.
هذا بالإضافة إلى أن القانون يفرق بين نوعين من التجاوز ومعيار التفرقة هو النية, وقد عرف القانون المدافع ذي النية السليمة بأنه: “من لا يقصد إحداث ضرر أشد مما يستلزمه الدفاع” وفي تعبير آخر اعتقاد المدافع أن القانون يخوله ارتكاب ما ارتكبه, وأن ما ارتكبه هو السبيل الوحيد والملائم لدرء الخطر.
ونرى أن ضابط التفرقة بين نوعي التجاوز هو توافر الخطأ غير العمدي أو توافر العمد, فإن لم يتوافر غير الخطأ فالتجاوز في هذه الحالة بنية سليمة, أما إذا تعمد المدافع تخطي حدود الدفاع فالتجاوز غير مقترن بنية سليمة, وإلى جانب هذين النوعين يوجد النوع الثالث, حيث لا يقترن التجاوز بعمد أو خطأ, ولم ينص القانون على هذا النوع, ولكن لا شك في وجودة وحكمة, إذ لا يتصور قيام المسؤولية دون ركن معنوي.
وبناءً على ذلك تكون ممارسة الدفاع الشرعي ممارسة لحق يقرره القانون في مواجهة الناس كافة ولا يجوز رده ولا مقاومته ما دام في حدوده القانونية وبالوسيلة المناسبة له.
هذا والله الموفق