كتابات

فَنُ المداولة القضائية عند اصدار الاحكام- تحليل من منظور مهني وعملي

بقلم القاضي/ جمال قاسم المصباحي

عضو المحكمة العليا

عُرِّفت المداولةُ القضائية في مجمع اللغة العربية (المعاصر) بأنها ” إجالة النظر في القضية قبل الحكم فيها” [وفقاً لما جاء في المعجم الوسيط]

وهو تعريف منسجم مع الأصل اللغوي لجذر الكلمة ومدلولها إذ قال في كتاب المنجد في اللغة ومنه قولهم تداولوا الشيء بينهم أي تناقلوه وقلبوه بين أيديهم وتناوبوه. ومثل ذلك في معجم مقاييس اللغة – لابن فارس ت (395هـ) أما رجال فقه القانون فقد اوردوا عدة تعريفات للمداولة لعل أجمعها وأوجزها وأجزلها التعريف الذي حررته د/أمل الغزايري واختاره د/سعيد جباري الشرعبي أستاذ المرافعات بجامعة صنعاء وهو قولها:

وهو نشاط ذهني يتم عبر منهج قانوني ومنطق قضائي يؤدي إلى تكوين رأي للمحكمة يتجسد في صورة منطوق الحكم واسبابه ويلمس القارئ لهذا التعريف انه حرص على جمع كل أطر ومقاصد ومنهج المداولة لبيان مدلولها باستغراق حدودها وإخراج ما ليس منها وهو ما يعرف في فن التعريفات بذكر الماهية للشيء مشمولاً بذكر أركانه وشروطه..

ويمكن القول من نتاج هذا الوصف ان مجرد الجدل السقيم النائي عن مكونات القضية محل المداولة مفترض استبعاده مسبقاً بين أعضاء الهيئة مصدرة الحكم او متولية البحث عند إصداره لأن عملها منضبط بمنهج قانوني ومنطق قضائي وهدف سام واحد لهيئة الحكم هو العدل واعمال نصوص القانون محل التطبيق على الواقعة الماثلة في القضية محل النظر –  وليس لأيٍ منهم أي غاية خاصة في القضية قطعاً بما في ذلك حتى الترفع عن فرض تقديم رأي على رأي بل بالاقتناع المسبق قانوناً أن اختلاف النظر يحسم بترجيح الاغلبية بما في ذلك حياد رئيس هيئة الحكم إذ هو صوت واحد فيها لا يفضل عن غيره الا بحق إدارة المداولة والمناقشة وكل هذا يستتبع معه في ادبيات وآداب القضاء افتراض ترفع القضاة فيما بينهم عن أي مناكفة أو مماحكه أثناء المداولة خاصةً بل وبعدها وتحمل بعضهم بعضا والتسامح فيما بينهم وحسن الظن والتماسه لبعضهم وبذل التعاون الخالص فيما بينهم على وجه الديمومة اذ هم القائمون على العدالة والقابعون في محراب القضاء المقدس.

وكل هذا مفترض معه التجرد وإجالة النظر ومعاودته والتحري فيه حتى مع القاضي الفرد في خلجات وجدانه حين يجري المداولة مع نفسه ويخلو بها وصولاً لإصدار الحكم في القضية وذلك في المستوى المتعلق بالحكم الابتدائي…

على ان خصوصية توجهنا في هذه المقالة هو الطرح والتدليل عن محطات المداولة الجماعية في المستويين الاستئنافي وكذلك مكون هيئة الحكم في المستوى الأعلى محكمة النقض بدوائرها الخماسية.

ومن هنا يظهر من بادرة الواقع والعقل ان احكام المستويين الاستئنافي والعليا هو عمل جماعي مهني منضبط كما جاء في التعريف الآنف الذكر ومفترض فيه بمنطقيات علم النفس الزكية القاعدة القائلة: [بالرأي تختلف العقول وليس تضطغن القلوب] والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية .. وفي المنطق المجرد قولهم: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، بل قد اعتمد الاصوليون هذا القاعدة كقاعدة أصولية وقالوا: ان كل حكم شرعي لا بد له من صورة في الواقع ولا بد من تعقل هذا الواقع، وهو ما أشار إليه قانون الإجراءات الجزائية وقانون المرافعات المدنية ايضاً بأن من شروط صحة الحكم وتسبيبه ان يكون سائغاً عقلاً ومنطقاً وهو ما يعرف عند الشراح وجاء في التعريف الآنف الذكر (بالمنطق القضائي).

ومن هنا يتكرس مبدأ تحديد منهج المداولة ومحلها أنها تحتاج كما حددها القانون [لوضع ملخص للقضية] من أحد أعضاء الهيئة لتقديمه مكتوباً إلى بقية الدائرة أو الشعبة .. لتتم قراءاته بعناية وتركيز ثم تبدأ المناقشة وفقاً .. (م 299 مرافعات، م 374 إجراءات جزائية) فقرة (5) على ان التجربة الميدانية وربما الغالبة ان يفتتح القاضي معد التقرير الكلام والخطاب بمقدمة شفويه موجزة لمكونات القضية واطرافها .. الخ قبل ان يقرأ التقرير ولهذا الأسلوب عند بعض الشراح ميزات تؤكد على تسهيل التصور للقضية مبدئياً من أعضاء الهيئة المستمعين وتؤكد على قوة دراسة القاضي للقضية.

وتبقى الإشارة هنا إلى أن قانون المرافعات النافذ والمعدل في 2021م وضع في المادة 228 فرض عنصر إضافي ( في مرحلة الحكم الابتدائي والاستئنافي قبل الحجز) وهو وضع محصل للقضية من قبل امانة السر .. واطلاع الخصوم عليه ومن هنا يمكن تسمية هذا المحصل بالتمهيد والمقدمة ” للملخص” المتعلق صناعته بقلم أحد القضاة والذي اسماه القانون ايضاً بالتقرير في القضية الذي يعد للمداولة..

ومن خلال هذه الديباجة والمقدمة لمقصود المداولة نجد اننا بحاجة ماسة للبيان الفني واللغوي خصوصاً لمعنى الخلاصة والملخص (التقرير) الذي تقام عليه المداولة.

قال في المعجم الوسيط: لخص الشيء اخذ خلاصته ولخص القول – قربه واختصره ويقال لخص لي خبرك – أي بينه شيئاً بعد شيء.

وقال العلامة ابن فارس ت (395هـ) في معجم مقاييس اللغة: لخص الشيء اذا بينه كأنه اللحم الخالص اذا ابرز وقال اللام والخاء والصاد كلمة واحدة ومطرده ايضاً في خلص فهي أصل واحد مطرد وهو تنقية الشيء وتهذيبه.

هذا ويتضح للمتأمل ان صناعة مدونة الحكم القضائي برمته هي مجموعة مكونات لعمل مهني لنشاط ذهني مدروس بعناية ومجسد في إخراجه بخصوصية تميز الحكم عن غيره في الرصد والكتابة والتوثيق والمناقشة .. ومن ثم .. فلا يمكن ان تتخذ المداولة طابع المحاضرة النظرية من احد قضاة الدائرة أو الشعبة بل تلاوة تقرير دقيق ملخص ومناقشته عليه بالدور من الجميع ( جميع أعضاء هيئة الحكم) وكذلك يمكن القول ان مدونة الحكم لا يمكن ان تأخذ طابع مؤلف نظري فقهي أو قانوني افتراضي او مرسل العبارات .. وبمعنى أوضح لا ينبغي ان تخرج نسخ الاحكام الا بنمط فنونها بعباراتها الموجزة والجزيلة والملخصة والمخلصة من التكرار والاسهاب او الخلط الذي يأتي على السنة المتخاصمين او أقلام بعض المحامين .

وانما تجرد نقاط النزاع بين الأطراف بدقة وكذلك المراكز القانونية لهم وما قد يحدث فيها من تغيير اثناء سير القضية مع درجات التقاضي لمرحلتي الموضوع ومرحلة  محكمة النقض – وبما يتعين هنا على القضاة اثناء المداولة من المصاحبة الذهنية لكل ذلك وصولاً وخلوصاً إلى القرار السليم في القضية.

فالقضاء ليس عملاً فقهياً وحسب بل هو ايضاً عمل إضافي مخصوص بفقه للواقع وللوقائع المعروضة امامه ولصاحب الخبرة الأطول فيه خصوصية في سرعة الادراك وتمييز الفصل في القضايا ومركباتها .. ولذلك يمكن القول بالمشهور من العبارات ان كل قاضٍ فقيه وليس كل فقيه قاض .. ومن ثم فان وقت المداولة هو اشبه بالوقت الضيق شرعاً الذي لا يجوز التقصير فيه ولا الخلط بشيء اخر لما حدد له ولا الإسراع المؤدي إلى الاخلال بحق القضية بل والأخطر انه لا يجوز الاسهاب والاسترسال فيه بغير حاجة لأن ذلك مهلك للوقت بغير حاجة وخاصة زمن العدالة الذي هو في الأصل مرصود ومحدد للقضاة للفصل في القضايا تباعاً وحتى لا يتأخر الفصل فيها بسبب التدارس والمداولة غير المؤطرة بإطارها في فن القضاء.

ولنا في ذلك ملمح بما امتن الله تعالى به في القرآن الكريم على أنبيائه بفصل الخطاب وهو فصل الحكم والقرار وتنجيزه والحزم فيه.

قال تعالى في حق نبيه سليمان عليه السلام: (وشددنا ملكه واتيناه الحكمة وفصل الخطاب … الخ الآية) سورة (ص) لذلك فان المداولة بعد اكتمالها من تلاوة التقرير والمناقشة عليه وسماع الآراء بما يكون الحكم من كل عضو ومن رئيس الدائرة أو الشعبة وعدم ظهور أي قصور في تحصيل القضية أو قصور وقائعها.

فإن المتعين لزاماً اخذ التصويت فيها والجزم بما انتهى إليه الرأي فيها أو رأي الأغلبية اذا اقتضى الامر وفقاً لأحكام القانون وقد نص قانون الإجراءات الجزائية على كل ذلك صراحة وخاصة في الفقرة 3 من المادة 369 بقوله: ” لا يجوز لأي قاض ان يمتنع عن التصويت عند اصدار الحكم او القرار كما لا يجوز له ان يمتنع عن التوقيع على الحكم مهما كان رأيه مخالفاً. وكما يقول فلا سفه القانون ان الحكم هو عنوان الحقيقة أي ان الحكم الثابت الصحيح هو عنوان للحقيقة – فمتى رسخت الحقيقة من ثوابت النزاع لدى هيئة الحكم يجب الصدع بهذه الحقيقة بلا تسويف ولا تأخير ولا تفويت.

وفي الختام يلحظ القائمون على أمور القضاء والعدالة ان هناك جزئيات تبعية تتعلق بفن المداولة ليس من الضرورة الخوض هنا في تفاصيلها والتي منها حق أحد أعضاء هيئة الحكم طلب إعادة المداولة لسبب جدي تبين له لاحقاً وللهيئة ان تستجيب له أو لا ولا يكون ذلك الا بعد توقيع مسودة الحكم فرضاً .. كما ان للهيئة اذا رأت معاودة الأدلة واعادتها ان تغير المسودة السابقة وتستبدلها بما راته بديلاً لها بشرط ان لا تكون نسخ الحكم قد صدرت من جانبها بإرسالها ولو عبر البريد

أو الى الأطراف او نطق بالحكم سماعا في القاعة.. وكل ذلك وفقاً لمقررات شروح القانون.

Loading