كتابات

إمكانية ورود جزاء الانعدام على أحكام التحكيم

المحامي الدكتور هشام قائد عبد السلام الشميري

مع تزايد ظاهرة اللجوء إلى التحكيم سبيلاً لتسوية المنازعات بين الأفراد الطبيعيين أو الاعتباريين أو بينهما معاً، سواء اتخذ اللجوء إلي التحكيم شكل التحكيم الحر أم شكل التحكيم المؤسسي، فقد بات التحكيم السبيل الأيسر لتسوية المنازعات والأكثر شيوعاً في مجال التجارة والاستثمار. ونظراً لأن التحكيم وسيلة ودية تمكن الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين من الحصول على العدالة في صورتها الخاصة، فقد استقر الرأي فقهاً وقضاءً علي أن التحكيم يُعد قضاءً خاصاً موازياً لقضاء الدولة صاحب الولاية العامة في الفصل في المنازعات ومستقلاً عنه، وأن هيئة التحكيم تُعد هيئة ذات إختصاص قضائي، فهو كعمل إجرائي قضائي له طبيعته الخاصة وأركانه الموضوعية والشكلية التي يجب أن تتوافر له حتي يحق له الوجود القانوني ومن ثم تثبت له القدرة علي أداء وظيفته القضائية وتحقيق العدالة في صورتها التي كان يطمح إليها طرفا التحكيم عند اختياره بديلاً عن القضاء.

وقد احتدم الخلاف الفقهي والقضائي حول إمكانية ورود جزاء الانعدام على أحكام التحكيم، وذلك إلى رأيين هما:

ذهب جانب من الفقه والقضاء اليمني إلى عدم قبول حكم التحكيم للانعدام لأن المادة (52) من قانون التحكيم قد أوردت ضمن حالات بطلان حكم التحكيم ما يعد من أسباب الانعدام، وفي ذلك قضت المحكمة العليا اليمنية بقولها:(ثم إن هذه الشعبة لم تدرك ما قرره القانون في المادة(٥٦) مرافعات بأن حكم الانعدامِ مقصور على الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم لا أحكام المحكمين، ولأن مواجهة أحكام المحكمين لا تكون إلا بالوسيلة التي قررها القانون وهي دعوى البطلان) “حكم المحكمة العليا اليمنية الصادر من الدائرة المدنية الهيئة (أ) بتاريخ ١٤ /٧/ ٢٠٠٨م في الطعن رقم(٢٨٩٨٩)لعام١٤٢٧ه”.

بينما ذهب جانب أخر من الفقه والقضاء اليمني إلى ورود جزاء الانعدام على أحكام التحكيم باعتبارها تُعد أعمال قضائية لأن حكم التحكيم يُعتبر بمثابة حكم بمعناه الخاص يحوز حجية الأمر المقضي به شأنه شأن الحكم الصادر من محاكم الدولة، وفي ذلك قضت المحكمة العليا اليمنية بقولها:(أن حكم التحكيم هو عمل قضائي يلحقه الانعدام إذا توافرت شروطه كما حددتها المادة(217) من قانون المرافعات مما يجعل ما دفع به محامي المطعون ضده بان الانعدام لا يمتد إلى حكم التحكيم غير قائم على أساس صحيح من القانون بما يوجب رفضه)”حكم المحكمة العليا اليمنية الصادر في الطعن المدني رقم(28481) لسنة1426ه جلسة 18/6/2007م”.

 

وبدورنا نؤيد الرأي الأخير الذي ذهب إلى ورود جزاء الانعدام على حكم التحكيم كونه يتوافق مع نصوص القانون اليمني، وسندنا في ذلك الآتي:

١- المشرع اليمني قرر صراحةًً في المادة (55) من قانون المرافعات أن محل ومجال جزاء الانعدام هو العمل القضائي بما نصت عليه من أن (الانعدام وصف يلحق العمل القضائي…)، وهذا يتفق مع  ما ذهب إليه جمهور الفقه الإجرائي من أن مجال العمل الإجرائي الذي يرد عليه جزاء الانعدام هو العمل القضائي حيث يجب في العمل الذي يرد عليه جزاء الانعدام أن يكون عملاً قضائياً أياً كانت صورته، ويُقصد بالعمل القضائي العمل الذي يباشره القائم به بصفته القضائية بما له من سلطة قضائية والذي يُعد عملاً إجرائياً باعتباره حصيلة مجموعة من الإجراءات التي ينظمها القانون الإجرائي وباعتبار الأثر الإجرائي الذي يرتبه وهو حجية الأمر المقضي به، وأساس العمل القضائي أن القائم به لا يستمد سلطته فيما يتخذه من أحكام أو قرارات أو أوامر من إرادة الخصوم أو بناء على سلطان إرادته الشخصية وإنما بناءً على ما له من سلطة قضائية. وفي الوقت نفسه نجد أن المشرع يعترف لأحكام التحكيم بالطبيعة القضائية بما قرره في المادة (56) من قانون التحكيم والمادة (12) من قانون المرافعات من تمتع أحكام التحكيم بذات الحجية التي قررها للأحكام الصادرة من محاكم الدولة، وهو بذلك قد اعتبر حكم التحكيم عملاً قضائياً يرد عليه جزاء الانعدام. ولعل تلك الطبيعة القانونية الخاصة لسلطة هيئة التحكيم التي تتولي الفصل في المنازعة المعروضة عليها هي التي دعت إلى النظر في أهمية الوقوف علي نتيجة العمل الإجرائي الذي تمارسه تلك الهيئة بما لها من سلطة قضائية لها حدودها التي رسم تخومها أطراف التحكيم والقانون، وهذه النتيجة تتمثل في حكم التحكيم النهائي الذي يفصل في موضوع النزاع ويحسم الخلاف حوله كله أو في جزء منه، فهو الثمرة التي يرمي طرفا التحكيم للحصول عليها، وهو الواقع الملموس للحماية القضائية في صورتها الخاصة الذي تستقر به الحقوق والمراكز القانونية استقراراً يحترمه الناس احترامهم للقانون، وهو ما يجعل نظام التحكيم موازياً للنظام القضائي صاحب الولاية العامة المختص بتقديم الحماية القضائية في صورتها العامة.

٢- إن المشرع اليمني في المادتين (12، 15) من قانون المرافعات قرر ضمناً انعدام حكم المحكم الذي فصل في مسألة سبق الفصل فيها بحكم قضائي أو حكم محكم، وذلك بما نصت عليه المادة (12) مرافعات التي رتب في المادة (15) من ذات القانون على مخالفتها الانعدام من انه (لا يجوز للقاضي أن يفتح نزاعاً حسم بحكم قائم صدر من ذي ولاية قضائية أو من محكم ما لم ينص القانون على خلاف ذلك). كما أن المشرع اليمني اعتبر الولاية شرط من شروط تمتع العمل القضائي بحجية الأمر المقضي به، ومقتضى ذلك أن حكم التحكيم الصادر من شخص ليس له ولاية في إصداره لا يحوز حجية الأمر المقضي به، وبالتالي فلا يمكن القول بتحصن ذلك الحكم الذي لم يحز حجية الأمر المقضي به بمضي ميعاد رفع دعوى البطلان.

٣- إن قواعد قانون المرافعات تعتبر الشريعة العامة للقوانين الإجرائية -التي منها قانون التحكيم- يرجع إليها في كل ما لم يرد به نص في قانون التحكيم، ومن هذه القواعد قواعد الجزاء الإجرائي المقررة في قانون المرافعات منها جزاء الانعدام، وذلك إعمالاً لقواعد التفسير التي تقرر أن القانون الجديد يلغي القانون القديم وقانون المرافعات الصادر عام 2002م الذي أقر جزاء الانعدام صراحةً يُعتبر هو القانون الجديد بالمقارنة بقانون التحكيم الصادر عام 1992م والمعدل عام 1997م.

٤ – إن تطبيق جزاء الانعدام على أحكام التحكيم  يتماشى مع فلسفة قانون التحكيم، فإذا كان المشرع اليمني في قانون المرافعات قد قرر جزاء الانعدام على الأحكام الصادرة من قضاء الدولة صاحب الولاية العامة التي فقدت ركناً من أركان وجودها فإنه من باب أولى أن يقرر الانعدام على أحكام التحكيم الصادرة من شخص ذي ولاية خاصة لا يتسم بالدراية والمعرفة القانونية الكافية، فمن غير المتصور أن يجعل المشرع الأحكام الصادرة من القضاء التي يكون المساس بالمبادئ العامة للقانون منعدمة لا تتحصن بمضي المدة، بينما يجعل أحكام التحكيم تتحصن بمضي المدة على الرغم مما يشوبها من خلل جسيم يفوق الخلل الذي يشوب أحكام القضاء.

٥- إن ما يحتج به القائلون بعدم قبول حكم التحكيم للانعدام من أن المادة (52) من قانون التحكيم أوردت ضمن حالات بطلان حكم التحكيم ما يعد من أسباب الانعدام لا يعد مبرراً مقنعاً، ومردود عليه بان المشرع أورد ضمن حالات الطعن بالنقض والالتماس في الحكم القضائي ما يعد من أسباب الانعدام وفي الوقت نفسه أجاز رفع دعوى مبتدأه  بانعدام هذا الحكم، كما أن ما قرره المشرع اليمني من عدم قابلية أحكام التحكيم للطعن فيها بطرق الطعن المقررة للأحكام القضائية واستبدالها بنظام دعوى بطلان حكم التحكيم في الحالات والاسباب التي أوردها على سبيل الحصر دونما تمييز بين الأسباب التي تؤدي إلى بطلان حكم التحكيم وتلك التي تؤدي إلى انعدامه وهو ما انعكس في المساواة  في الأثر المترتب على كل منهما فكانت الوسيلة لإهداره واحدة وهي دعوى البطلان وفق نظام إجرائي خاص بها نص عليه القانون على الرغم من الاختلاف الجذري بين فكرة البطلان وفكرة الانعدام الذي كان من شأنه الكشف عن قصور نال نظام البطلان وجعله غير قادر علي مواجهة الحالات التي يكون فيها حكم التحكيم منعدماً، هذا بالإضافة إلى أن القول بعدم إمكانية ورود جزاء الانعدام على أحكام التحكيم يمثل عائقاً أمام من كان خارجاً عن خصومة التحكيم من غير أطراف التحكيم في اللجوء إلى دعوى بطلان حكم التحكيم التي تشترط أن يكون رافعها من أطراف اتفاق التحكيم فلم تعد من فرصة في ظل هذا النظام لمواجهة تلك الحالة، ونظراً لأن نطاق الانعدام أوسع من نطاق البطلان كانت دعوى انعدام الحكم هي الوسيلة الأكثر فاعلية لمواجهة الحالة التي يكون حكم التحكيم فيها منعدماً أى في حالة اللا حكم.

٦- إن ما يحتج به القائلون بعدم ورود جزاء الانعدام على حكم التحكيم من أن المشرع في المادة (53) من قانون التحكيم حظر الطعن في أحكام التحكيم بأي طريق من طرق الطعن المنصوص عليها في قانون المرافعات لا يعد مبرراً مقنعاً، ومردود عليه بأن هذا الحظر لا يمتد إلى جزاء الانعدام كون الانعدام يعد جزاءً إجرائياً وليس طعناً، وليس أدل على ذلك أن الخصم لا يتقيد بأي ميعاد للتمسك بالانعدام، كما أن نطاق الانعدام أوسع من نطاق البطلان حيث أن دعوى انعدام الحكم تعد هي الوسيلة الأكثر فاعلية لمواجهة الحالة التي يكون حكم التحكيم فيها منعدماً أي في حالة اللا حكم.

والله ولي الهداية والتوفيق،،،،

Loading