كتابات

وجهة نظر قانونية حول قرارات محكمة العدل

المستشار الدكتور صالح عبد الله المرفدي

اولاً: حقيقة قرار محكمة العدل الدولية:

–  في البدء أقرت محكمة العدل لجنوب إفريقيا الحق في إقامة الدعوى؛ تأسيسًا على أنها دولة عضو في اتفاقية الأمم المتحدة لمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وبالتالي، عليها واجب دولي وفقًا لهذه الاتفاقية، بأن تقوم بمنع ارتكاب تلك الجريمة وملاحقة مرتكبيها من الدول.

–  أمرت محكمة العدل – باعتبارها أعلى محكمة في الأمم المتحدة – إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع ومعاقبة التحريض المباشر على الإبادة الجماعية في حربها في قطاع غزة.

–  صرّحت المحكمة على دولة إسرائيل أن تتخذ كل الإجراءات التي في وسعها؛ لمنع ارتكاب جميع الأفعال ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية.

– توصّلت المحكمة إلى أن هناك قضية يجب الاستماع إليها، حول مدى حرمان الفلسطينيين من حقوقهم في حرب تسببت في ضرر إنساني جسيم بحسب المحكمة.

–  محكمة العدل أحجمت خلال الجلسة، عن إصدار أمر بوقف إطلاق النار في غزة، لكنها طالبت إسرائيل بمحاولة احتواء الموت والأضرار.

– المحكمة قالت أن بعض الحقوق على الأقل التي تسعى جنوب إفريقيا للحصول عليها في دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها ضد حرب إسرائيل على غزة “منطقية!”.

– لا يتناول الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية الاتهام الأساسي في القضية، وهو ما إذا كانت هناك إبادة جماعية، ولكنه ركّز على التدخل العاجل الذي تسعى إليه جنوب إفريقيا.

–  صوتت أغلبية كبيرة من أعضاء لجنة محكمة العدل الدولية المكونة من 17 قاضيًا، لصالح اتخاذ إجراءات عاجلة تغطي معظم ما طلبته جنوب إفريقيا، باستثناء توجيه الأمر بوقف العمل العسكري الإسرائيلي في غزة.

–  لم يحقق القرار آمال الفلسطينيين في إصدار أمر ملزم بوقف الحرب في غزة، لكنه يمثل أيضا ضربة قانونية لإسرائيل التي كانت تأمل في إسقاط القضية المرفوعة، بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي تأسست بعد محرقة (الهولوكوست).

– دعت المحكمة الجماعات الفلسطينية المسلحة، إلى إطلاق سراح الرهائن الذين تم أسرهم في هجمات السابع من أكتوبر على بلدات إسرائيلية، وهو ما عجّل باندلاع الصراع.

ثانيا: تأثير القرار على طرفي الصراع في الحرب:

– قرار محكمة العدل الدولية جاء ليمثل ضغطا على طرفي الصراع في حرب غزة، فمن ناحية إسرائيل، رفضت المحكمة طلبها بعدم قبول دعوى جنوب إفريقيا، إضافة إلى اتخاذ ما يلزم وفق الاتي صراحة:

١- منع التحريض على الإبادة الجماعية.

٢- طلب إيضاحات في المسائل المتعلقة بالإبادة.

٣- اتخاذ تدابير فعالة للسماح بمزيد من المساعدات الإنسانية إلى القطاع.

٤- الاحتفاظ بكل الوثائق والمستندات الموجودة لديها فيما يتعلق بالحرب على غزة.

ومن وجهة نظرنا، أن هذه البنود الأربعة فيها “إشارة ضمنية”، أن المحكمة أظهرت عقيدتها بشكل مبدئي بإدانة إسرائيل بارتكاب جرائم الابادة، حتى يثبت العكس من قبلها!! ورغم ذلك، فإن إسرائيل “لم تخسر الكثير من قرار محكمة العدل، حيث لم يتطرق قرار المحكمة إلى طلب وقف إطلاق النار بغزة، مما يعني مواصلة عمليتها العسكرية الراهنة، وهذا هو هدفها!

اما بالنسبة للفصائل الفلسطينية، فإن محكمة العدل طلبت من حماس وباقي الجماعات تسليم الرهائن لديها بدون شروط، وهذا يمثل ضغطا لإجبارهم على تسليم المحتجزين لديهم.

وفيما يتعلق بالمسار المستقبلي للقضية، فإن إسرائيل ستدافع عن نفسها باعتبار ما تقوم به – على حد قولها – ردًا على هجمات السابع من أكتوبر، والمتوقع أنها ستقدم وثائق تنفي قيامها بارتكاب أفعال إبادة جماعية، وإنما هجمات تستهدف أنصار حماس المصنفين كإرهابيين، وعلى هذا النحو، فإن قرار محكمة العدل الدولية، يعني انتصارًا لجنوب إفريقيا وبدرجة أقل لإسرائيل!

وعلى هذا الأساس، يمكن لجنوب إفريقيا أن تدعي النصر، حيث صدرت الأوامر لإسرائيل باتخاذ كل الإجراءات التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال، ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، ومع ذلك، إذا كان الهدف هو جعل محكمة العدل الدولية، تفرض وقفًا لإطلاق النار في هذا الصراع، فإن هذا الامر يتطلب المصادقة عليه من مجلس الأمن، وفي هذا الشأن “الفيتو الامريكي”، ينتظر للتصدي وكسر هذا الامر، لذلك، باءت هذه الجهود بالفشل، وهنا تدعي إسرائيل النصر.

وفي المحصلة، فإن الحرب في غزة ستستمر على الرغم من الدعوات الصادرة عن جنوب إفريقيا لإيقافها”، وأن قرار مطالبة الجماعات الفلسطينية بإطلاق سراح الرهائن ستستغله إسرائيل أيضا لصالحها.

ثالثا: آليات تنفيذ قرار المحكمة:

بالاستناد الى الوثائق الاممية، والى قرار تنظيم عمل محكمة العدل الدولية، فان هذه المحكمة تمثل العدالة الدولية، ومن ثم فقراراتها إلزامية لأطراف الدعوى، فتفصل في النزاعات بين الدول الأعضاء في المنظمة الدولية، إلا أن المحكمة لا تملك آلية لفرض تنفيذ تلك القرارات. وبالمقابل، فإن إسرائيل لا تستطيع أن تحاجج بقضائها المستقل ولا بنظامها الديمقراطي بعد قرار الهيئة القضائية الدولية الأعلى في العالم بأسره.

ونؤكد هنا، أن أوامر محكمة العدل الدولية نهائية وغير قابلة للاستئناف، لكن ما يعيقها أنها ليس لديها آليات لتنفيذ أحكامها وأوامرها، ويبدو من الوهلة الاولى، ومن خلال الانتقادات الإسرائيلية للمحكمة أنها لن تنفذ ما سيصدر عنها، لكن الدعوى القضائية في تقديرنا ستستمر، سواءً قبلت إسرائيل بتنفيذ أوامر المحكمة أم لم تنفذها، لكنها تستغرق عدة سنوات لحين إصدار الحكم النهائي، وهو ما جرت به العادة في نظر قضايا محكمة العدل من الناحية الموضوعية!!

رابعا: الخلاصة:

المحكمة حاولت أن يكون قرارها حياديا؛ لأن أمامها أدلة واضحة تقدمت بها جنوب إفريقيا في شكواها، ووصفتها بأنها “منطقية”. لكن على الجانب الآخر، لم تقرّ المحكمة بأهم طلب قُدم لها وهو وقف إسرائيل لكافة الأعمال العسكرية والعدائية، ولم تتطرق له في قرارها، لكنها أكّدت على إسرائيل ضمان ألا ترتكب أفعالا تؤدي إلى مخالفة اتفاقية الإبادة الجماعية، وبالتالي، حاولت المحكمة موازنة القرار، وفي كل الاحوال، إسرائيل ستقدم تقريرا بعد شهر بإلزامها بإدخال المساعدات، وعدم ارتكاب أفعال إبادة جماعية، فلننتظر ونترقب مدى التزامها بأوامر المحكمة؟؟

وفي اعتقادنا المتواضع وفي كل الاحوال، أن القرارات بمثابة اختبار للحكومة الإسرائيلية بمدى التزامها بأحكام القانون الدولي، وبالتالي، فدلالة قرارات المحكمة سياسية أكثر من دلالتها القانونية، فالقرار جيد بالنسبة لغزة على الصعيد السياسي وسيفيد الوضع بالقطاع، من خلال متابعة التزام الحكومة الإسرائيلية بإدخال عدد أكبر من شاحنات المساعدات، والتوقف عن ارتكاب مجازر جديدة. وعلى المدى البعيد، فهو أمر جيد خاصة بعدما أقرت المحكمة بأحقيتها في نظر الدعوى وهذا أمر مهم للغاية، وقولها بمنطقية الأدلة المقدمة يفيد الدعوى عند النظر في شقها الموضوعي.  هذه وجهة نظرنا المتواضعة، والله أعلم بما استخفي من الأمور؟!

Loading