ابحاث

العـدالـة الناجـزة لجمهور المتقاضين بيـن الآمال المنشودة والأسباب المانعة

د/ محمد يحيى السلمي

باحث قانوني

ويتجلى جوهر العدالة الناجزة التي ينشدها جمهور المتقاضين من اجهزة قضاء المحاكم والنيابة العامة نحو تقديم خدمة قضائية ذات جودة شاملة بإيتاء كل ذي حق حقه في اقل مدة زمنية ممكنة وبأيسر التكاليف.

وإذا كانت تلك الأماني محل سطورنا هي بحق تُعد اليوم الهدف الحقيقي امام الادارة القضائية (هيئة التفتيش القضائي)، القائمة على شئون قضاء المحاكم والنيابة العامة، وكما يجده المطلع والمتتبع ذلك كذلك ملموساً على ارض الواقع نحو جدية تلك الادارة بقيامها من جانب اولى بتبني التعديلات التشريعية الاجرائية بالقانون الصادر برقم (1) لسنة 2021م بتعديل بعض مواد القانون رقم (40) لسنة 2002م بشأن المرافعات والتنفيذ المدني وبقيامها من جانب ثاني بإصدار القانون رقم (3) لسنة2022م بتعديل بعض مواد قانون الرسوم القضائية رقم (26) لسنة 2013م وبقيامها من جانب ثالث بإصدار العديد من التعاميم الجوهرية لقضاة المحاكم الابتدائية والاستئنافية والنيابة العامة لتذكير قاضي الموضوع الالتزام بأحكام القانون إذ لا سلطان على القاضي سوى سلطان القانون.

بيد أنه وبالرغم من كل ذلك الجهد الملموس واقعاً المعلوم لدي كل ذي صلة بملف القضية المدنية و/أو الجزائية إلا انه غير كاف البتة لتحقيق العدالة الناجزة على اض الواقع، ونعتقد أن سبب ذلك يكمن في تلك الفجوة القائمة بين الواقع والقانون المتمثلة في تلك العوارض التشريعية والقضائية والادارية التي من شأنها الحيلولة بالفعل دون تحقيق العدالة الحقيقة المنشودة لجمهور المتقاضين، مما كان واجباً علينا والحال كذلك القيام بدورنا بالبحث والدراسة لتلك الاسباب السلبية ووضع الحلول والمعالجات لها أمام جهة الادارة المعنية والتي من شأن الاخذ بها هو القضاء على تلك الفجوة برمتها فإن لم يكن فعلى الاقل الحد منها لما غايته وهدفه تحقيق العدالة الناجزة لجمهور المتقاضين.

ونعتقد وهو ما يتفق ويتوافق معنا عليه كل من المطلع والمتتبع بأن من العوارض المانعة لتحقيق العدالة الناجزة هو إطالة إجراءات التقاضي امام المحاكم والنيابات العامة ويتجلى ذلك تحديداً في طول المدة الزمنية (مدة مرحلة الطعن) الواقعة حصراً بين تاريخ جلسة النطق بالحكم الابتدائي وبين تاريخ الجلسة الاولي امام محكمة الاستئناف، وكذلك طول المدة الزمنية الواقعة حصراً بين تاريخ جلسة النطق بالحكم الاستئنافي وتاريخ وصول ملف القضية الي المحكمة العليا والتي تتراوح تلك المدة الزمنية ما بين ستة اشهر الى سنة او تزيد على ذلك، والتي يساهم فيها قضاة المحاكم والنيابة العامة وموظفيهما والمشرع من قبل ومن بعد على نحو يستنكره المنطق والعقل السليم لما لذلك من اثار سلبية ترهق الخصوم لتكبدهم مزيداً من الجهد والمال والوقت غير المبرر خلال تلك المدة الزمنية نتيجة للأسباب والعوارض الاتية:

 

السبب الأول: عدم التزام الغالب من القضاة (قاضي الموضوع) إرفاق مسودة الحكم بملف القضية في جلسة النطق بالحكم.

وبالتالي ففضلاً عن كون ذلك مخالفة قانونية يترتب عليها بطلان الحكم عند الطعن فيه فإنه الى جانب ذلك يُعد ارهاقاً للخصوم اللذين يظلون رهينة لرحمة ذلك القاضي نحو متابعتهم المحكمة باستمرار تسليمهم نسخة من الحكم القضائي وفقاً للقانون.

الحل والمعالجة:

1ـ بدايةً لماذا يتسرع قاضي الموضوع في اصدار النطق بالحكم طالما ان مسودته غير مستوفاة لإرفاقها بملف القضية عند النطق به، ذلك انه بإمكان القاضي هنا وهناك معالجة جهده الذي يبذله ويحرص على ثمرته والاشادة به بقيامه الفصل في الخصومات (الاحكام) من خلال قيامه المُسبق تحديد اجل كاف لموعد النطق بالحكم يتمكن خلاله من اعداد مسودة الحكم كاملة وارفاقها بملف القضية دون إبطاء في جلسة النطق بالحكم ليتسنى تسليم الاطراف نسخة منه دون إبطاء.

2ـ نقترح قيام هيئة التفتيش القضائي بدورها لمعالجة ذلك القصور المُخل من خلال إصدار تعميم قضائي في هذا الشأن لكل من قضاة المحاكم الابتدائية والاستئنافية مع الاشارة إلى أنه سبق قيام الهيئة بإصدار التعاميم المتلاحقة في ذات الموضوع دونما أي استجابة ملحوظة لها من القضاة المخاطبين بها مما ينم عن مساهمة القاضي في إطالة أمد التقاضي وارهاق الخصوم دونما قصد منه والمطالبة بالالتزام بتلك التعاميم والتعاطي معها وعدم تجاهلها عملاً بأحكام القانون لتلافي تلك المخالفات الظاهرة ولما فيه تحقيق المصلحة العامة…الخ.

السبب الثاني: القصور التشريعي بالمادة (421) من قانون الإجراءات الجزائية رقم 13 لسنة 1994م بشأن إجراء تقرير الاستئناف خلال (15يوماً) من تاريخ صدور الحكم الابتدائي (فقط) دونما إلزام المستأنف التقيد بمدة معينة لتقديم عريضة اسباب الاستئناف.

ويتجلى ذلك في أن المشرع ترك الباب مفتوحاً بمصراعيه امام الخصم المستأنف، إذ يكفيه لقبول استئنافه من حيث الشكل التقيد بتقرير الاستئناف خلال المدة القانونية المشار اليها دونما أي الزام قانوني بمواجهته التقيد بمدة زمنية محددة لتقديم عريضة اسباب طعنه بالاستئناف ، مما يترتب على ذلك إطالة اجراءات التقاضي اذا يظل المستأنف ضده رهينة لرحمة ذلك المستأنف سيئ النية الذي متى شاء قام بإرفاق عريضة اسباب الاستئناف بملف القضية ليتسنى ارساله للمحكمة الاستئنافية ….الخ.

الحل والمعالجة:

1ـ القيام بتعديل تشريعي لنص المادة (421) إ.ج بشأن الطعن بالاستئناف في الحكم الجزائي علي نحو يماثل نص المادتين (437،436) إ.ج بشأن الطعن بالنقض- كون ذلك التعديل عند صدوره من شأنه الحد من إطالة مدة التقاضي التي يستغلها الخصم سيئ النية للكيد بخصمه وإرهاقه.

2ـ نقترح قيام الهيئة إصدار تعميم في هذا الشأن تعقيباً على تعميمها السابق الصادر في ذات الموضوع بشأن وجوب التزام قاضي الموضوع باستشعار المسئولية وهو بصدد اداء وظيفته على نحو المساهمة في معالجة إطالة مدة التقاضي من خلال قيام قاضي محكمة اول درجة إرسال ملف القضية الجزائية محل التقرير بالاستئناف الى محكمة ثاني درجة دون تراخٍ ودون انتظار المستأنف لتقديم عريضة اسباب الاستئناف…..الخ.

السبب الثالث: عدم قيام الموظفين الاداريين بالمحاكم والنيابة العامة بإرسال واستقبال الملفات القضائية المنجزة خلال فترة الاجازة القضائية.

وكذلك يساهم الموظفون والكتبة الاداريون بالمحاكم الابتدائية والاستئنافية والنيابة العامة في اطالة مدة التقاضي من خلال هذا الامر الملحوظ واقعاً بتنصلهم القيام باستقبال أو إرسال ملفات القضايا المنجزة تحت مبرر واهٍ بأن القضاة في إجازة وسيتم تحديد موعد للجلسة بعد انتهاء العطلة القضائية…..الخ.

الحل والمعالجة: وهنا نقترح قيام هيئة التفتيش ووزير العدل بإصدار تعاميم للمحاكم الابتدائية والاستئنافية وللنيابة العامة في هذا الشأن بالزام الموظفين الاداريين والكتبة وامناء السر بأرسال واستقبال الملفات القضائية المنجزة خلال فترة العطلة القضائية دون تراخٍ.

السبب الرابع: تراخي المحاكم وموظفيها (الابتدائية او الاستئنافية) تسليم الحكم القضائي لأطرافه خلال المدة المحددة قانوناً.

وهذا الامر ملحوظ واقعاً تشهده ساحات المحاكم الموضوعية بدرجتيها ولا يجادل في نفي ذلك الا جاحد.

الحل والمعالجة:

1ـ وجوب قيام هيئة التفتيش القضائي بشقيها على قضاة المحاكم والنيابة العامة وضع نصب اعينها وهي بصدد التفتيش العادي او المفاجئ رصد تلك المخالفات في هذه المسألة بالتقارير المرفوعة اليها واعتبارها معايير اساسية عند تقييم اداء القضاة نحو منحهم الترقية والمزايا او تقرير الجزاء القانوني.

2ـ وجوب قيام الهيئة بالإشادة بالقاضي و/أو عضو النيابة العامة وكذلك بالموظف الاداري الملتزم بوجباته وعدم وقوعه بأي من تلك المخالفات، وذلك بالإفصاح عنه في الاجتماعات الدورية والمناسبات لمجلس القضاء الأعلى ومنحهم الامتيازات والمكافئات المجزية الامر الذي سيدفع بزملائهم الاخرين العاملين معهم في ذات المحكمة او المحاكم الأخرى من السير علي نهجهم واتباع مسلكهم الوظيفي مما سيحقق عندئذٍ المصلحة العامة.

3ـ وجوب قيام الادارة المعنية بهيئة التفتيش القضائي بمتابعة قاضي المحكمة او عضو النيابة المعني قيامه بتنفيذ معالجة شكوى على ارض الواقع في ظل التوجيهات الصادرة له بالمعالجة، ومثاله تسليم نسخة من الحكم القضائي للشاكي ذي الصفة القانونية……الخ.

ـ ذلك أنه لا يكفي قيام الهيئة فقط بمعالجة الشكوى شكلاً وموضوعاً من خلال تلقيها من الشاكي فالتحقق من صحتها فمخاطبة القاضي المعني بالمعالجة ضمن رسالة مظرفة (أي ارجاع الشاكي الى المشكو به) دون ان تقوم الهيئة بالتحقق الفعلي من قيام المشكو به تنفيذ تلك المعالجات على ارض الواقع- ذلك أنه إذا لم يكن ذلك كذلك فستظل المعالجة أمراً مفرغاً من محتواه يدل على عدم الجدية في إنصاف الشاكي هذا فضلاً عن فقد الخصوم ثقتهم في الجهة الرقابية (هيئة التفتيش) وبالمقابل هو امتداد لمزيد من الشكاوى بل ومزيد من تلك المخالفات لدى هذا القاضي او ذاك الذي سيتولى عندئذٍ القيام بإحالة تلك التوجيهات بالمعالجة لموظف المحكمة كاتباً او امين السر والذي يحكي لسان هذا الاخير مخاطباً الشاكي (سرت ورجعت الى عندي هيا ما فعلت لك الشكوى!!) وهكذا ابتزاز من جديد وكأنك يا بو زيد ما غزيت، وهو ما لا ترضى به مطلقاً هيئة التفتيش القضائي الملموس جديتها لتحقيق العدالة الناجزة نحو انصاف الشاكين بتنفيذ معالجات شكاواهم الصادرة عنها بعد عناء وبحث ودراسة.

بينما لو اخذت الهيئة بمقترحنا المتواضع في هذه المسألة لحقق ذلك ثمرة الجهد الذى بذلته نحو انصاف الشاكي بل وزادت ثقة جمهور المتقاضين فيها ليس لكونها تلقت الشكوى ابتداءً وتولت معالجتها انتهاء وانما لأنها تعاطت مع شكاواهم بجدية منذ استقبالها ودراستها وليس ذلك فحسب بل ولكونها تولت متابعة القاضي المشكو به باستمرار حتي قيامه بتنفيذ تلك الحلول والمعالجات الآمرة بها على ارض الواقع انصافاً للشاكي غايتها وهدفها وليس غيره.

وأخيراً فإن ثمرة الاحكام تنفيذها ما لم فهي تظل حبراً على ورق رسمي تساهم نحو مزيد من المعاناة والمآسي للمحكوم له الذي لم يصل لحقوقه بعد كل هذا العناء والجهد لا سيما وأنه صار بين يديه حكم قضائي مفرغ من محتواه لم يحقق له الإنصاف من قبل ومن بعد.

فهل من مجيب يا أولي الألباب؟! للأخذ بتلك الحلول والمعالجات (المتواضعة) المشار اليها بما غايته وهدفه المساهمة في تحقيق العدالة الناجزة لجمهور المتقاضين ام ستظل محلاً للإعجاب والاشادة ما لم يكن التأمل والتفكر فيها فقط، والله من وراء القصد هو حسبنا نعم المولي ونعم النصير.

Loading