كتابات

سلطة المحكمة أثناء تجاوز لجنة التحكيم لصلاحياتها

القاضي. الدكتور/ صالح عبد الله المرفدي*

كنت قد وضعت سؤالاً، ونصه كالآتي: هل يجوز لمحكمة الاستئناف أن تبطل جزءاً من حكم التحكيم، وتؤيد الجزء الآخر؟

والإجابة من وجهة نظرنا “وبكل تواضع” هي على النحو الآتي:

مما لا شك فيه:

أن هذا السؤال مرتبط ارتباطًاً وثيقاً بتطبيق أحكام المادة (٥٣) من قانون التحكيم اليمني، والتي ذكرت صراحة بقولها أنه: (لا يجوز إبطال حكم التحكيم)، وذكر المشرع في الفقرة (د) أحد هذه الأسباب وهي: (تجاوز لجنة التحكيم صلاحياتها!).

 

قد يعتقد البعض:

أن محكمة الاستئناف رقابتها على إجراءات التحكيم والحكم به هو دور قانوني مُجرد؛ باعتبارها محكمة قانون وبالتالي لا يجوز لها أن تتدخل في الموضوع.. وأجيب أن هذه النظرة قاصرة؛ لأن رقابة محكمة الاستئناف تمتد بالتدخل في حال الخلاف بين أطراف التحكيم أنفسهم، وبينهم وبين هيئة التحكيم، وباعتقادنا أن الخلل يكمن في القانون اليمني، الذي لم يكن واضحًا ولا صريحًا ولا قاطعًا في تحديد وضبط دور المحاكم في إجراءات التحكيم، وجاء بعبارة عامة مكررة وغير مضبوطة، وتحت مسمى (المحكمة المختصة)، بعكس التشريعات العربية التي كانت أكثر وضوحاً وصراحة، بتحديد اختصاص مسائل التحكيم المحلي إلى المحاكم الابتدائية المختصة، أما إذا كان التحكيم “تجارياً دولياً” سواء جرى في البلد أو في الخارج، فيكون الاختصاص لمحكمة الاستئناف، على أن تظل هذه المحاكم صاحبة الاختصاص حتى انتهاء جميع إجراءات التحكيم وتنفيذه. (انظر م/٩ تحكيم مصري)!

 

 وفي حقيقة الأمر:

إن الاجابة على السؤال الذي طرحناه سابقًا، يقودنا إلى الحديث عن سلطة محكمة الاستئناف، في الرقابة على حكم التحكيم بعد صدوره.. ولعله من المفيد الإشارة، بأن قانون الاونسيترال (قواعد التحكيم التجاري الدولي) ومعظم التشريعات العربية، كانت من السابق تقيّد سلطة محكمة الاستئناف، فلا سبيل أمامها إلا إقرار حكم التحكيم بأكمله أو ابطاله بأكمله، لكن بعد ذلك أقرّ قانون الاونسيترال، وكذلك تشريعات التحكيم في الدول العربية، منح محكمة الاستئناف سلطة أوسع في الرقابة على صحة أحكام التحكيم، وأدخلت فقرة تجيز للمحكمة تصحيح حكم التحكيم، وذلك بفصل المسائل التي يشملها شرط واتفاق التحكيم عن المسائل التي لم يشملها، وترتب على ذلك، بأن أجازوا إبطال المسائل التي لم يشملها اتفاق التحكيم، والإبقاء على المسائل التي شملها اتفاق التحكيم (انظر م/٣٤ فقرة ٣ أونسترال و م/٥٣ فقرة (ز) مصري).

 

 وفي هذا الخصوص:

اختلفت اجتهادات المحكمة العليا للجمهورية، ففي حكم صادر من الدائرة التجارية هيئة (ب)، وبالطعن رقم (٣٦٧٥٣) بتاريخ ٢٠٠٩/١١/٢٤، وكذلك في حكم آخر صادر في الطعن رقم (٥١٨٠٠) بتاريخ ٢٠١٣/٤/٢٧، أجازا هذان الحكمان، تصحيح حكم التحكيم، بينما لم يجز التعديل والتصحيح، في الحكم الصادر من الدائرة المدنية في الطعن رقم (٥٧٠٦٨) وبتاريخ ٢٠١٥/٨/٢٥.

 

وعلى هذا الأساس:

نرى صوابية تصحيح حكم التحكيم؛ وفي ذلك أن تعديل حكم التحكيم يختلف عن تصحيحه؛ (فالتعديل) يقتضي الإضافة أو الحذف أو التغيير في الحكم، بينما (التصحيح) يعني مراجعة الحكم، بحيث يتم إعادته إلى نصابه وفقًا للقانون، ويقتضي هذا الأمر إبطال ما هو مخالف للقانون، والإبقاء على ما هو متفق مع القانون، ويشمل التصحيح إضافة إلى ما تقدم، قيام هيئة التحكيم بإجراء التصحيح المادي، أو إغفال الفصل في بعض طلبات المحتكمين الجوهرية، سواء تقدم بها المحتكمون أنفسهم، أو تنبهت لها هيئة التحكيم أو المحكمة المختصة.

 

ولكي تتضح الصورة نضرب هذا المثال:

إذا تضمن حكم التحكيم مسائل مخالفة الشريعة الإسلامية أو النظام العام في اليمن، فإذا أمكن فصل مسائل خاضعة للتحكيم وأخرى غير خاضعة له، أو إذا تضمن ما يخالف الشريعة أو النظام العام في بعض أجزائه، أو في شق منه، وأمكن فصل بعضها عن البعض الآخر، فإن البطلان لا يقع إلا على أجزاء الحكم المتعلقة بالمسائل غير الخاضعة لاتفاق التحكيم، أو تلك التي خالفت الشريعة أو النظام العام وحدها دون باقي أجزاء الحكم.

 

  وفي هذا الشأن:

يجوز لمحكمة الاستئناف أن تصحح حكم التحكيم؛ إذا احتوى الأخير على جزأين: جزء لم يخرج عنه المحكمون عن اتفاق التحكيم، وجزء آخر تجاوز فيه المحكمان صلاحياتهم..  ومن هذا المنطلق، يكون لمحكمة الاستئناف الحق بإمكانية فصل حكم التحكيم، في المسائل التي لم يشملها اتفاق التحكيم، أو جاوز حدود هذا الاتفاق.

 

إضافة الى ذلك:

إذا طبقنا قاعدة إلزام محكمة الاستئناف بأخذ حكم التحكيم والإقرار بصحته، أو إبطاله كاملًا كما هو.. فإننا نكون قد منحنا المحكمة دوراً سلبياً وصامتاً وقيدنا رقابتها بشكل حرفي وجامد، ولذلك، نرى حفاظًاً على التكاليف وجهد الأطراف والمحكمة، أن تمنح محكمة الاستئناف صلاحية رقابية أوسع؛ حتى لا تبطل كل حكم تحكيم يعرض عليها؛ بمبرر تجاوز المحكمين لبعض صلاحياتهم في جزء من حكم التحكيم، فيجب عليها إبطاله على هذا الأساس، طالما الجزء الآخر غير متعلق به.

 

ثم أن:

تصحيح حكم التحكيم كما تقدم، لا يعني تعديل الحكم، فهو لم يضيف جزءاً جديداً في الحكم، كما أنه لم يغير الحكم أو يحرّفه، وفي نفس الوقت، لم يحذف جزءاً من الحكم يتوافق مع القانون، بل العكس هو الصحيح، حيث أن التصحيح بالحذف شمل الجزء المخالف للقانون (التجاوز)، والإبقاء على الجزء المتفق مع شرط التحكيم، ومع قانون التحكيم نفسه، وفي ذلك؛ توفير لوقت وجهد المحاكم والمتقاضين أنفسهم.

 

وفي المحصلة:

نوصي المشرع اليمني، بإضافة حق التصحيح لمحكمة الاستئناف في الفقرة (د) من المادة (٥٣ تحكيم) وعلى النحو الآتي: (ومع ذلك، إذا أمكن فصل أجزاء الحكم الخاصة بالمسائل الخاضعة لاتفاق التحكيم، عن أجزائه الخاصة بالمسائل غير الخاضعة له، فلا يقع البطلان إلا على الأجزاء الأخيرة وحدها).

هذا اجتهادي وتصوري، والله أعلم، وهو الموفق إلى الصواب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*دكتوراه في القانون الجنائي- جامعة عين شمس.

Loading